حُكى أن .. رجلاً اجتاز على حجرة نخاس ( تاجر الرقيق ) فرأى فيها جارية مستحسنة فتعلقت بقلبه ، فلم يقدر أن يتجاوز الموضع وكان تحته فرس يساوى مائة دينار وعليه أثواب جميلة وهو مقلد بسيف محلى بالذهب وبين يديه مملوك أسود . فتقدم إلى صاحبها وطلب منه بيعها فقال له : لاشك أنك أحببت جاريتى والمحب يبذل كل ما يملك فى طلب محبوبه . ولا أبيعها إلا بجميع ما تملك يدك فى هذه الساعة . فنزل عن فرسه وخلع جميع ما عليه من الثياب واستعار قميصاً من النخاس وسلم الجميع إليه مع المملوك الذى كان بين يديه وأخذ الجارية ومضى إلى بيته حافياً مكشوف الرأس .
لما بذل الثمن .. أخذ الثمن .. عرف ما طلب .. فهان عليه ما بذل .. الصادق المحب .. لا يقف مع غير محبوبه .
فإذا سمعت قول الحق سبحانه وتعالى ] وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [ ([1]) فسألت ما ثمنها ..؟!
قال الله عز وجل ] إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ [ ([2]) .
سلم النفس والمال .. وقد صارت لك .. وإذا قلت أريدُ وجهه سبحانه وتعالى وقد لمح قلبى باب القرب ورأى المحبين داخلين فيه وخارجين منه وعليهم خلع الملك فما ثمن الدخول ..؟! قلنا له : ابذل نفسك واترك شهواتك ولذاتك ودع النفس والهوى والطبع ودع الشهوات الدنيوية والأخروية ودع الكل واتركهم وراء ظهرك ثم ادخل فإنك تـرى مالا عين رأت ولا أذن سمعـت ولا خطـر على قلب بشر ] قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ[ ([3]).
لم يرض الله عز وجل لها ثمناً ، دون بذل النفس ، حينئذٍ تأخر البطالون وقام المحبون ينظرون أيهم يصلح أن يكون ثمناً فدارت السلعة بينهم فوقعت فى يد) أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ ( ([4]) ، ولما كثر المدعون للمحبة طولبوا بإقامة البيئة الصحيحة ، فتنوع المدعون فى الشهود ، فقيل : لا تقبل هذه الدعوى إلا ببينة ) قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ( ([5])، فتأخر الخلق كلهم وثبت أتباع الحبيب صلى الله عليه وسلم ( فى أفعاله .. وأقواله .. وأخلاقه ) فطولبوا بعدالة البينة بتزكية ) يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ( ([6]) ، ) إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ ( ([7]) .
فلما عرفوا عظمة المشتري .. وفضل الثمن .. وجلالة من جرى على يديه عقد البيع .. ورأوا من أعظم الغبن أن يبيعوها لغيره .. فلما تم العقد .. قيل لهم : قد صارت نفوسكم وأموالكم لنا رددناها عليكم وأوفر ما كانت وأضعافها معاً ) وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ ( ([8]).
المحب الصادق فى محبته يسلم إليه نفسه وماله ويترك اختياره فيه وفى غيره لا تتهمه فى تصرفه لا تستعجله .. لا تبخله .. يحلو عنده كل ما يصدر إليه منه لا تكمل لك محبتك إياه حتى يخرج الخلق من قلبك . من العرش إلى الثرى .
هذا القلب .. إذا عرف الله عز وجل أحبه وقرب منه يستوحش من الخلق والكون يستوحش من أكله وشربه ولباسه ونكاحه .. لا يقيده سوى أمر الشرع .. يتقيد بالأمر والنهى ..
إذا غُرست شجرة المحبة فى القلب وسُقيت بماء الإخلاص ومتابعة الحبيب صلى الله عليه وسلم .. أثمرت أنواع الثمار وآتت أكلها كل حين بإذن ربها ، أصلها ثابت فى قرار القلب وفرعها متصل بسدرة المنتهى .
· أنواع المحبة النافعة :
1) محبة الله عز وجل .
2) محبة فى الله عز وجل .
3) محبة ما يعين على طاعة الله عز وجل .
فمن المحبة النافعة محبة الزوجة لإعفاف نفسه وأهله فلا تطمح نفسه إلى غيرها ولا تطمح نفسها إلى غيره .
وكلما كانت محبة الزوجين أتم وأقوى تحقق المقصود من قوله تعالى ] وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [ ([9]) وقوله تعالى ] يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً [ ([10]).
فلا عيب على الرجل فى محبته لأهله إلا إذا شغله ذلك عن محبة ما هو أنفع له من محبة الله ورسوله وزاحم حب الله عز وجل وحب رسوله صلى الله عليه وسلم .
فإن كل محبة زاحمت محبة الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم بحيث تضعفها فهى مذمومة وإن أعانت على محبة الله ورسوله وكانت من أسباب قوتها فهى محمودة .
ولذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب الشراب البارد الحلو ويحب الحلوى والعسل ويحب الخيل وكان أحب الثياب إليه القميص وكان يحب الدباء فهذه المحبة لا تزاحم محبة الله بل قد تجمع الهَّم والقلب على التفرغ لمحبة الله تعالى فهذه محبة طبيعية تتبع نية صاحبها ومقصده بفعل ما يحبه فإن نوى به القوة على أمر الله تعالى وطاعته كان قربة وإن فعل ذلك بحكم الطبع والهوى والميل المجرد لم يُثب ولم يعاقب .
· شروط المحبة ( المحبوب الأعلى .. الله جل جلاله ) :
1) موافقة المحبوب فيما يحبه ويرضاه .
2) يكره ما يكرهه المحبوب ويسخطه .
3) محبة أحبابه وبغض أعدائه .
4) موالاة من والاه ومعاداة من عاداه .
5) أن تهب كلَّـك لمن أحببت .
6) إيثار المحبوب على جميع المصحوب .
7) أن يمحى من القلب ما سوى المحبوب .
استقلال الكثير فى نفسك واستكثار القليل من حبيبك .
9) استكثار القليل من جنايتك واستقلال الكثير من طاعتك .
10) إقامة العتاب على الدوام ( أى معاتبة النفس على التقصير ) .
11) الميل الدائم بالقلب الهائم .
12) أن لا تؤثر على المحبوب غيره وأن لا يتول أمورك غيره .
13) سفر القلب فى طلب المحبوب ولهج اللسان بذكره ، فمن أحب شيئـاً أكثر من ذكره .
14) القيام بنصرته والسير على طريقه .
· الأسباب الجالبة لمحبة الله سبحانه وتعالى :
1) قراءة القرآن بالتدبر .
2) التقرب إلى الله سبحانه وتعالى بالنوافل .
3) دوام ذكره على كل حال .
4) إيثار محابه على محابك .
5)مطالعة القلب لأسمائه وصفاته ( المعرفة ) .
6) مشاهدة بره وإحسانه وآلائه ونعمه الظاهرة والباطنة .
7) انكسار القلب بين يدى الله سبحانه وتعالى .
مجالسة المحبين الصادقين والتقاط أطايب ثمار كلامهم .
9) مباعدة كل سبب يحول بين القلب وبين الله عز وجل .
10) الخلوة به وقت النزول الإلهى لمناجاته وتلاوة كلامه ثم ختم ذلك بالاستغفار وقت السحر ([11]).
· دليل المحبة :
علامة حبك الأعظم للمحب الأعلى الله جل جلاله حينما تترك كل محبوب من أجله سبحانه وتعالى وذلك يظهر حين تترك نفقة لأهل بيتك ثم تخرج وتترك مسكنك الذى ترتضيه وفيه زوجتك وأولادك وتترك بلدتك التى فيها إخوانك وعشيرتك وأصدقاءك وتُخلِف وراءك تجارتك أو مصنعك أو مزرعتك التى تخشى كسادها وتخرج فى سبيل الله عز وجل ] إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ [ ([12]) مع صحبة صالحة فى بيئة صالحة فى بيت من بيوت الله عز وجل لتنطلق من خلاله بالدعوة إلى الله عز وجل ولإعلاء كلمته ، فإن دل ذلك فإنما يدل على محبتك لله عز وجل أكثر من محبتك للثمانية التى ذكرها الله جل جلاله فى قوله تعالى] قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ [ ([13]).
ثم تعود بقلب سليم وهمة عالية بما معك من نور العلم والإيمان لتقيم عمل الدعوة فى أهلك وإخوانك وعشيرتك وتفعل ذلك وإن حدث النقص فى دنياك فإنه يجب تحمل المضار الدنيوية ليبقى الدين سليماً عزيزاً منصوراً ، فإنه إذا وقع التعارض بين مصلحة واحدة من مصالح الدين وبين جميع مهمات الدنيا وجب على المسلم ترجيح الدين على الدنيا وإلا وقعت عليه العقوبة من الله تعالى فى دنياه وأخراه .
وأنت تقدم مصلحة دينك على دنياك ، فتكون خير خلف لخير سلف ( صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ) فقد ضربوا أروع الأمثلة فى التفانى فى حب الله ورسوله وترك لذات الدنيا الفانية .
مقتبس من كتاب كلمات مضيئة في الدعوة إلي الله بقلم / محمد علي محمد إمام
-----------------------
[1]) سورة الزخرف - الآية 71 .
[2]) سورة التوبة - الآية 111 .
[3]) سورة الأنعام - الآية 91 .
[4]) سورة المائدة - الآية 54 .
[5]) سورة آل عمران - الآية 31 .
[6]) سورة المائدة - الآية 54 .
[7]) سورة التوبة - الآية 111 .
[8]) سورة آل عمران - الآيتان 169 ، 170 .
[9]) سورة الروم – الآية 21 .
[10]) سورة النساء – الآية 1 .
[11]) انظر كتاب الفتح الربانى - الشيخ عبد القادر الجيلانى ، ومدارج السالكين - ابن القيم - منزلة المحبة - 3 / 6 ، إغاثة اللهفان من مكائد الشيطان - لابن القيم - 2/135 .
[12]) سورة الصافات - من الآية 99 .
[13]) سورة التوبة – الآية 24 .
محمد علي محمد إمام
(منقول)