بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ
الحمد لله التواب الرحيم, الرؤوف البر الحكيم, فتح باب التوبة لعباده, وبشرهم بفرحه بها, وسهّل طريقها ويسّره للسالكين, فله الحمد والشكر لا نحصي ثناء على إله العالمين, على الله توكلي, وبه استعانتي, وعليه اعتمادي, وإليه فراري والتجائي, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمداً عبده ورسوله, مدحه ربه وأثنى عليه بقوله: "لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم" (التوبة: 128). أمرنا بالتوبة وحض عليها فقال: "يا أيها الناس توبوا إلى الله واستغفروه فإني أتوب في اليوم مائة مرة" رواه مسلم, وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة" رواه البخاري, صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد؛ فهذه وقفات مع قصة عبقة, وتأملات لحادث جليل الخطر, ولرواية كثيرة العبر؛ يرويها بسرد رائق جميل مؤثر أحد أدباء صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم, وأحد فرسانه باللسان والسنان, والأول أشدّ وقعاً وأعظم إيلاماً وأبعد نكاية من الثاني على مستوى العموم, وإن كان الثاني أمضى في البداية, وأحسم في النهاية.
وظِلال هذه القصة يحسّها الكثير, فما دامت النفس حبيسة الجسد, فعدوّها لها بالمرصاد "لأقعدن لهم صراطك المستقيم. ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ولا تجد أكثرهم شاكرين" (الأعراف: 16_17) ولم يقل: من فوقهم, فربهم حافظٌ من سبقت لهم منه الحسنى. وفي سير الأصحاب الأفذاذ الذين تخرّجوا على يد خير المربّين وسيد المرسلين زاداً للأمة في استلهام العبر, وتوسيع مدارك النظر, فأخبارهم حقيقة بتسطير المداد, فهم بعد الأنبياء خير العباد, رضي الله عنهم وألحقنا بهم على خير حال, غير مفتونين ولا مبدلين.
ومن أولئك النجباء الأفذاذ؛ الشاعر الفارس كعب بن مالك الأنصاري, رضي الله عنه, الذي روى خبره وقصة توبة الله عليه وعلى صاحبيه, تلك التوبة التي خلّدها رب العالمين في محكم التنزيل, فأثنى عليهم ووصفهم بالصادقين, فإلى ذلك البستان نقطف من ثماره اليانعة, ونتنفس نسيمه الشذي, ونمتع العين برياضه وخمائله, وسندسه وإستبرقه, ونملأ الرؤوس شمماً والنفوس عزةً من جبال مآثره, وسهول أخلاقه وشيمه.
ومن أراد أن يتبصّر في سورة التوبة فليتأمّل غزوة تبوك, وما أجرى الله تعالى فيها من الأحداث بين أهل الصدق والنصح والإخلاص, وأهل الكذب والغش والنفاق. مع تسجيل الفضل لأهله, والسبق لأصحابه, فقد سبقني الكثير من الأوائل والأواخر في الوقوف على أطلال تلك القصة الفذة وأحداثها المهيبة البهيّة, وتسجيل ثمرات التأملات, ومما دبّج ورصّع في ذلك؛ ما سُطر في سِفْرَي عَلَمَينِ حافِظَين, وعالِمَينِ عظيمين, من أئمة الدين والهدى, قد انغمست هنّاتهما في خضمّ بحور فضلهما وإحسانهما, ابن حجر العسقلاني ومحيي الدين النووي, في مصنفيهما الفتح والمنهاج. كذلك زاد المعاد للعالم الرباني وشيخ الإسلام الثاني شمس الدين ابن القيم, رحمهم الكريم الرحمن, وجزاهم عن الإسلام خيراً, وقد أقللت من النقل عنهم, وأحلت حيث نقلت, وإلى مقصود المقال, مع ملاحظة أن التعليق موضوع بين معقوفين:
قال أبو عبدالله البخاري رحمه في صحيحه: "حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ وَكَانَ قَائِدَ كَعْبٍ مِنْ بَنِيهِ حِينَ عَمِيَ قَالَ سَمِعْتُ كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ يُحَدِّثُ حِينَ تَخَلَّفَ عَنْ قِصَّةِ تَبُوكَ" (كعب بن مالك بن أبي كعب الخزرجي الأنصاري السلمي، يكنى أبا عبدالله, لما قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة آخى بينه وبين طلحة بن عبيدالله حين آخى بين المهاجرين والأنصار، وهو أحد شعراء رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين كانوا ينافحون عنه, شهد العقبة, وشهد أحداً والمشاهد كلها إلا غزوتي بدر وتبوك. وفي يوم أحد لبس كعب رضي الله عنه لأمَةَ النبي صلى الله عليه وسلم, وكانت صفراء، ولبس النبي صلى الله عليه وسلم لأمَتَهُ فجرح كعب بن مالك رضي الله عنه أحد عشر جرحاً.
قال محمد بن سيرين رحمه الله: "كان شعراء المسلمين حسان بن ثابت وعبدالله بن رواحة وكعب بن مالك رضي الله عنهم, فكان كعب يخوفهم الحرب، وعبدالله يعيرهم بالكفر، وكان حسان يقبل على الأنساب، فبلغني أن دوساً إنما أسلمت فرقا من قول كعب بن مالك رضي الله عنه:
قضـينا من تهامة كل ريب --- وخيبر ثم أغمدنا السيوفا
تُخَبِّرنـا ولو نطقت لقالت --- قواطعهن دوسـاً أو ثقيفاً
فلما بلغ دوساً قالوا: خذوا لأنفسكم، لا ينزل بكم ما نزل بثقيف, توفي رضي الله عنه سنة خمسين، وقيل سنة ثلاث وخمسين، وهو ابن سبع وسبعين، وكان قد عمي وذهب بصره في آخر عمره) "قَالَ كَعْبٌ: لَمْ أَتَخَلَّفْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزْوَةٍ غَزَاهَا إِلَّا فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ, غَيْرَ أَنِّي كُنْتُ تَخَلَّفْتُ فِي غَزْوَةِ بَدْرٍ, وَلَمْ يُعَاتِبْ أَحَدًا تَخَلَّفَ عَنْهَا, إِنَّمَا خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُرِيدُ عِيرَ قُرَيْشٍ حَتَّى جَمَعَ اللَّهُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ عَدُوِّهِمْ عَلَى غَيْرِ مِيعَادٍ, وَلَقَدْ شَهِدْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ الْعَقَبَةِ حِينَ تَوَاثَقْنَا عَلَى الْإِسْلَامِ, وَمَا أُحِبُّ أَنَّ لِي بِهَا مَشْهَدَ بَدْرٍ وَإِنْ كَانَتْ بَدْرٌ أَذْكَرَ فِي النَّاسِ مِنْهَا.
كَانَ مِنْ خَبَرِي أَنِّي لَمْ أَكُنْ قَطُّ أَقْوَى وَلَا أَيْسَرَ حِينَ تَخَلَّفْتُ عَنْهُ فِي تِلْكَ الْغَزَاةِ, وَاللَّهِ مَا اجْتَمَعَتْ عِنْدِي قَبْلَهُ رَاحِلَتَانِ قَطُّ حَتَّى جَمَعْتُهُمَا فِي تِلْكَ الْغَزْوَةِ" (وتأمل صدقه وبيان حاله وقوته وغناه إبّان تخلفه) "وَلَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُرِيدُ غَزْوَةً إِلَّا وَرَّى بِغَيْرِهَا" (أي أوهم السامع أنه يريد جهة غير جهته بدون كذب, كأن يسأل علانية عن طرق الغرب وهو يريد الشرق وهكذا) "حَتَّى كَانَتْ تِلْكَ الْغَزْوَةُ غَزَاهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَرٍّ شَدِيدٍ, وَاسْتَقْبَلَ سَفَرًا بَعِيدًا وَمَفَازًا, وَعَدُوًّا كَثِيرًا, فَجَلَّى لِلْمُسْلِمِينَ أَمْرَهُمْ" (أي وضّح وجهتهم) "لِيَتَأَهَّبُوا أُهْبَةَ غَزْوِهِمْ, فَأَخْبَرَهُمْ بِوَجْهِهِ الَّذِي يُرِيدُ, وَالْمُسْلِمُونَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَثِيرٌ, وَلَا يَجْمَعُهُمْ كِتَابٌ حَافِظٌ يُرِيدُ الدِّيوَانَ" (روي أنهم كانوا أربعين ألفاً وقيل ثلاثين) "قَالَ كَعْبٌ: فَمَا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَتَغَيَّبَ إِلَّا ظَنَّ أَنْ سَيَخْفَى لَهُ مَا لَمْ يَنْزِلْ فِيهِ وَحْيُ اللَّهِ. وَغَزَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تِلْكَ الْغَزْوَةَ حِينَ طَابَتْ الثِّمَارُ وَالظِّلَالُ, (وفي سيرة ابن هشام رحمه الله في ذكر غزوة تبوك, وكانت في رجب سنة تسع: ...فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم وهو في جهازه ذلك للجد بن قيس أحد بني سلمة: يا جدّ، هل لك العام في جلاد بني الأصفر؟ فقال: يا رسول الله، أو تأذن لي ولا تفتني, فوالله لقد عرف قومي أنه ما من رجل بأشد عجباً بالنساء مني، وإني أخشى إن رأيت نساء بني الأصفر أن لا أصبر، فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: قد أذنت لك. ففي الجد بن قيس نزلت هذه الآية: "ومنهم من يقول ائذن لي ولا تفتني ألا في الفتنة سقطوا وإن جهنم لمحيطة بالكافرين" (التوبة: 49) أي: إن كان إنما خشي الفتنة من نساء بني الأصفر، وليس ذلك به, فما سقط فيه من الفتنة أكبر، بتخلفه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، والرغبة بنفسه عن نفسه، وإن جهنم لمن ورائه.
وقال قوم من المنافقين بعضهم لبعض: لا تنفروا في الحر, زهادة في الجهاد، وشكاً في الحق، وإرجافا برسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله تبارك وتعالى فيهم: "وقالوا لا تنفروا في الحر قل نار جهنم أشد حرّاً لو كانوا يفقهون . فليضحكوا قليلاً وليبكوا كثيراً جزاء بما كانوا يكسبون" (التوبة: 81_82).
وبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ أن ناسا من المنافقين يجتمعون في بيت سويلم اليهودي، وكان بيته عند جاسوم، يثبّطون الناس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، فبعث إليهم النبي صلى الله عليه وسلم طلحة بن عبيد الله في نفر من أصحابه، وأمره أن يحرق عليهم بيت سويلم، ففعل طلحة فاقتحم الضحاك بن خلفة من ظهر البيت، فانكسرت رجله، واقتحم أصحابه فافلتوا. فقال الضحاك في ذلك:
كـادت وبيت الله نار محـمد --- يشيط بها الضحاك وابن أبيرق
وظلت وقد طبقت كبس سويلم --- أنوء على رجلي كسيراً ومرفقي
سـلام عليكم لا أعود لمثلهـا أخاف ومن تشمل به النار يحرق
ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم جدّ في سفره، وأمر الناس بالجهاز والانكماش، وحضّ أهل الغنى على النفقة والحملان في سبيل الله، فحمل رجال من أهل الغنى واحتسبوا، وأنفق عثمان بن عفان في ذلك نفقة عظيمة، لم ينفق أحد مثلها. وأنفق عثمان ابن عفان في جيش العسرة في غزوة تبوك ألف دينار، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم أرض عن عثمان فإني عنه راض.
ثم إن رجالاً من المسلمين أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم البكاءون، وهم سبعة نفر من الأنصار وغيرهم, فاستحملوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانوا أهل حاجة، فقال: لا أجد ما أحملكم عليه. فتولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزناً ألا يجدوا ما ينفقون. فلقي ابن يامين بن عمر النضري أبا ليلى عبدالرحمن بن كعب وعبدالله بن مغفل وهما يبكيان، فقال: ما يبكيكما؟ قالا: جئنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ليحملنا فلم نجد عنده ما يحملنا عليه، وليس عندنا ما نتقوى به على الخروج معه؛ فأعطاهما ناضحاً له فارتحلاه، وزودهما شيئاً من تمر، فخرجا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وفي الإصابة: في ذكر البكائين في غزوة تبوك؛ فأما علبة بن زيد فخرج من الليل فصلى وبكى, وقال: اللهم إنك قد أمرت بالجهاد، ورغبت فيه ولم تجعل عندي ما أتقوّى به مع رسولك، وإني أتصدق على كل مسلم بكل مظلمة أصابني بها، في جسد أو عرض. وقال: فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم منادياً فنادى: أين المتصدق بعرضه البارحة؟ فقام علبة. فقال صلى الله عليه وسلم: قد قُبِلَت صدقتك. (فلله الحمد على عظيم فضله وكريم إنعامه).
ثم استتب برسول الله صلى الله عليه وسلم سفره، وأجمع السير. وقد كان نفر من المسلمين أبطأت بهم النية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى تخلفوا عنه عن غير شك ولا ارتياب؛ منهم كعب بن مالك بن أبي كعب، أخو بني سلمة، ومرارة بن الربيع، أخو بني عمرو بن عوف، وهلال بن أمية، أخو بني واقف، وأبو خيثمة، أخو بني سالم بن عوف، وكانوا نفر صدق، لا يتهمون في إسلامهم.
فلما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ضرب عسكره على ثنية الوداع, وضرب عبدالله ابن أبيّ معه على حدة عسكره أسفل منه نحو ذباب، وكان فيما يزعمون ليس بأقل العسكرين. فلما سار رسول الله صلى الله عليه وسلم تخلّف عنه عبدالله بن أبيّ فيمن تخلف من المنافقين وأهل الريب.
وخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب رضوان الله عليه في أهله, وأمره بالإقامة فيهم, فأرجف به المنافقون، وقالوا: ما خلفه إلا استثقالاً له، وتخففاً منه، فلما قال ذلك المنافقون: أخذ علي بن أبي طالب رضوان الله عليه سلاحه، ثم خرج حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو نازل بالجرف، فقال: يا نبي الله زعم المنافقون أنك إنما خلفتني أنك استثقلتني، وتخففت مني؛ فقال: كذبوا, ولكني خلفتك لما تركت ورائي، فارجع فاخلفني في أهلي وأهلك، أفلا ترضى يا علي أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى، إلّا أنه لا نبي بعدي، فرجع علي إلى المدينة ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم على سفره.
ثم إن أبا خيثمة رجع بعد أن سار رسول الله صلى الله عليه وسلم أياماً إلى أهله في يوم حار، فوجد امرأتين له في عريشين لهما في حائطه، قد رشّت كل واحدة منهما عريشها، وبرّدت له فيه ماء، وهيأت له فيه طعاماً، فلما دخل قام على باب العريش، فنظر إلى امرأتيه وما صنعتا له، فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم في الضّح والريح والحر، وأبو خيثمة في ظل بارد، وطعام مهيأ، وامرأة حسناء، في ماله مقيم، ما هذا بالنَّصَف!.
ثم قال والله لا أدخل عريش واحدة منكما حتى ألحق برسول الله صلى الله عليه وسلم، فهيئا لي زاداً، ففعلتا. ثم قدم ناضحه فارتحله ثم خرج في طلب رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى أدركه حين نزل بتبوك، وقد كان أدرك أبا خيثمة عمير بن وهب الجمحي في الطريق، يطلب رسول الله صلى الله عليه وسلم فترافقا، حتى إذا دنوا من تبوك، قال أبو خيثمة لعمير بن وهب: إن لي ذنباً، فلا عليك أن تخلّف عني حتى آتي رسول الله صلى الله عليه وسلم ففعل، حتى إذا دنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو نازل بتبوك، قال الناس: هذا راكب على الطريق مقبل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كن أبا خيثمة؛ فقالوا: يا رسول الله، هو والله أبو خيثمة، فلما أناخ أقبل فسلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: أولى لك يا أبا خيثمة. ثم أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم خيراً ، ودعا له بخير.
وقال أبو خيثمة في ذلك شعراً:
لما رأيت الناس في الدين نافـقوا --- أتيت التي كانت أعف وأكرما
وبايعت باليمـنى يدي لمحـمد --- فلم أكتسب إثما ولم أغش محرما
تركت خضيبا في العريش وصرمة --- صفايا كراماً بسرها قد تحمما
وكنت إذا شك المنافق أسمحت --- إلى الدين نفسي شطره حيث يمما
قال ابن القيّم رحمه الله: ومن الفوائد؛ أنَّ الإمامَ إذا استنفر الجيشَ، لزمهم النفير، ولم يجز لأحدٍ التخلّف إلّا بإذنه، ولا يُشترط في وجوب النفير تعيين كلِّ واحدٍ منهم بعينه، بل متى استنفر الجيش؛ لزم كل واحد منهم الخروج معه، وهذا أحدُ المواضع الثلاثة التي يصير فيها الجهادُ فرضَ عينٍ. والثاني: إذا حضر العدو البلد. والثالث: إذا حضر بين الصفين. وقال: ومن الفوائد؛ وجوب الجهاد بالمال، كما يجب بالنفس، وهذا إحدى الروايتين عن أحمد، وهي الصواب الذي لا ريب فيه، فإن الأمر بالجهاد بالمال شقيق الأمر بالجهاد بالنفس في القرآن وقرينه، بل جاء مقدماً على الجهاد بالنفس في كل موضع إلا موضعاً واحداً، وهذا يدل على أن الجهاد به أهم وآكد من الجهاد بالنفس، ولا ريب أنَّه أحد الجهادين، كما قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: "من جهّز غازياً فقد غزا" رواه البخاري, فيجب على القادرِ عليه، كما يجب على القادرِ بالبدن، ولا يتمُّ الجهادُ إلا ببذله، ولا ينتصرُ إلا بالعَدد والعُدد، فإنْ لم يقدر أنْ يكثر العَدد، وجب عليه أنْ يمد بالمال والعُدة، وإذا وجب الحج بالمال على العاجز بالبدن، فوجوب الجهاد بالمال أولى وأحرى) قال كعب: "وَتَجَهَّزَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمُونَ مَعَهُ فَطَفِقْتُ أَغْدُو لِكَيْ أَتَجَهَّزَ مَعَهُمْ, فَأَرْجِعُ وَلَمْ أَقْضِ شَيْئًا, فَأَقُولُ فِي نَفْسِي: أَنَا قَادِرٌ عَلَيْهِ, فَلَمْ يَزَلْ يَتَمَادَى بِي حَتَّى اشْتَدَّ بِالنَّاسِ الْجِدُّ, فَأَصْبَحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمُونَ مَعَهُ, وَلَمْ أَقْضِ مِنْ جَهَازِي شَيْئًا, فَقُلْتُ أَتَجَهَّزُ بَعْدَهُ بِيَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ ثُمَّ أَلْحَقُهُمْ, فَغَدَوْتُ بَعْدَ أَنْ فَصَلُوا لِأَتَجَهَّزَ فَرَجَعْتُ وَلَمْ أَقْضِ شَيْئًا, ثُمَّ غَدَوْتُ ثُمَّ رَجَعْتُ وَلَمْ أَقْضِ شَيْئًا, فَلَمْ يَزَلْ بِي حَتَّى أَسْرَعُوا وَتَفَارَطَ الْغَزْوُ" (وفي هذا بيان خطر التسويف, وكما قيل: اتق سوف وحتى فهما من جند إبليس) "وَهَمَمْتُ أَنْ أَرْتَحِلَ فَأُدْرِكَهُمْ وَلَيْتَنِي فَعَلْتُ" (وفيه التحسّر على فوات الخير حتى لا تفوّت النفس أمثاله) "فَلَمْ يُقَدَّرْ لِي ذَلِكَ" (وهذا من الاحتجاج بالقدر على المصائب وليس الذنوب) "فَكُنْتُ إِذَا خَرَجْتُ فِي النَّاسِ بَعْدَ خُرُوجِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَطُفْتُ فِيهِمْ أَحْزَنَنِي أَنِّي لَا أَرَى إِلَّا رَجُلًا مَغْمُوصًا عَلَيْهِ النِّفَاقُ, أَوْ رَجُلًا مِمَّنْ عَذَرَ اللَّهُ مِنْ الضُّعَفَاءِ" (وفي ذلك اعتبار الطريق بصلاح سُلّاكه أو فسادهم, وحزن نفس المؤمن إن حُبِست مع أهل السوء, وأنسها بأهل الخير.
ثم حدثت أمور عجيبة قدّرها الله تعالى في تلك الغزوة الفريدة, وفيها من دلائل النبوة كثير, وفي سيرة ابن هشام: ...وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم حين مر بالحجر نزلها، واستقى الناس من بئرها (والحجر هي ديار قوم صالح عليه السلام, وهي واقعة بجوار العُلا حاليّاً) فلما راحوا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تشربوا من مائها شيئاً، ولا تتوضئوا منه للصلاة، وما كان من عجين عجنتموه فاعلفوه الإبل، ولا تأكلوا منه شيئاً، ولا يخرجنّ أحد منكم الليلة إلا ومعه صاحب له. ففعل الناس ما أمرهم به رسول الله صلى الله عليه وسلم, إلا أن رجلين خرج أحدهما لحاجته، وخرج الآخر في طلب بعير له، فأما الذي ذهب لحاجته فإنه خنق على مذهبه (أي صرعته الجنّ) وأما الذي ذهب في طلب بعيره فاحتملته الريح حتى طرحته بجبلي طيئ. (أي جبلي أجا وسلمى بحائل حالياً, وبينها وبين طريق تبوك مئات الكيلوات! وفيها شؤم مخالفة أمره صلى الله عليه وسلم, قال تعالى: "يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه وأنه إليه تحشرون" (الأنفال: 24) وقال تعالى: "وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالاً مبيناً" (الأحزاب: 36). فأُخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "ألم أنهكم أن يخرج منكم أحد إلا ومعه صاحبه؟!" ثم دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم للذي أصيب على مذهبه فشفي، وأما الآخر الذي وقع بجبلي طيئ، فإن طيئاً أهدته لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين قدم المدينة.
ولما مرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحجر سجّى ثوبه على وجهه، واستحث راحلته، ثم قال: لا تدخلوا بيوت الذين ظلموا إلا وأنتم باكون، خوفاً أن يصيبكم مثل ما أصابهم. (قلت: واليوم تنظّم لها الزيارات السياحية, والمشتكى إلى الله).
فلما أصبح الناس ولا ماء معهم شكوا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأرسل الله سبحانه سحابة، فأمطرت حتى ارتوى الناس، واحتملوا حاجتهم من الماء.
وسُئل محمود بن لبيد: هل كان الناس يعرفون النفاق فيهم؟ قال: نعم، والله إن كان الرجل ليعرفه من أخيه ومن أبيه ومن عمه وفي عشيرته، ثم يلبس بعضهم بعضاً على ذلك، ثم قال محمود: لقد أخبرني رجال من قومي عن رجل من المنافقين معروف نفاقه، كان يسير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث سار، فلما كان من أمر الناس بالحجر ما كان، ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم حين دعا، فأرسل الله السحابة فأمطرت حتى ارتوى الناس، قالوا: أقبلنا عليه نقول: ويحك! هل بعد هذا شيء؟! قال: سحابة مارة! "ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلاً" (النساء: 143). ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم سار حتى إذا كان ببعض الطريق ضلت ناقته، فخرج أصحابه في طلبها، وعند رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل من أصحابه، يقال له عمارة بن حزم، وكان عقبياً بدرياً، وكان في رَحْلِهِ زيد بن اللصيت القينقاعي، وكان منافقاً. فقال زيد بن اللصيت، وهو في رحل عمارة، وعمارة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم: أليس محمد يزعم أنه نبي ويخبركم عن خبر السماء، وهو لا يدري أين ناقته؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وعمارة عنده: إن رجلاً قال: هذا محمد يخبركم أنه نبي ويزعم أنه يخبركم بأمر السماء وهو لا يدري أين ناقته، وإني والله ما أعلم إلا ما علمني الله، وقد دلني الله عليها، وهي في الوادي، في شعب كذا وكذا، وقد حبستها شجرة بزمامها، فانطلقوا حتى تأتوني بها فذهبوا فجاءوا بها، فرجع عمارة بن حزم إلى رحله، فقال: والله لعجب من شيء حدثناه رسول الله صلى الله عليه وسلم آنفاً، عن مقالة قائل أخبره الله عنه بكذا وكذا، للذي قال زيد بن اللصيت، فقال رجل ممن كان في رحل عمارة ولم يحضر رسول الله صلى الله عليه وسلم: زيد والله قال هذه المقالة قبل أن تأتي. فأقبل عمارة على زيد يجأ في عنقه ويقول: إليّ عباد الله، إن في رحلي لداهية وما أشعر، أخرج أي عدو الله من رحلي، فلا تصحبني. (فرضي الله عن أهل الولاء والبراء) وقيل: إن زيداً تاب من ذلك.
ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم سائراً، فجعل يتخلّف عنه الرجل، فيقولون: يا رسول الله، تخلف فلان، فيقول: دعوه، فإن يك فيه خير فسيلحقه الله تعالى بكم، وإن يكن غير ذلك فقد أراحكم الله منه، حتى قيل: يا رسول الله، قد تخلف أبو ذر، وأبطأ به بعيره؛ فقال: فإن يك فيه خير فسيلحقه الله بكم، وإن يك غير ذلك فقد أراحكم الله منه، وتلوّم أبو ذر على بعيره، فلما أبطأ عليه، أخذ متاعه فحمله على ظهره.
إذا همّ ألقى بين عينيه عـزمه --- ونكّب عن ذكر العواقب جانبا
ثم خرج يتبع أثر رسول الله صلى الله عليه وسلم ماشياً، ونزل رسول الله في بعض منازله، فنظر ناظر من المسلمين فقال: يا رسول الله إن هذا الرجل يمشي على الطريق وحده؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كن أبا ذر. فلما تأمله القوم قالوا: يا رسول الله، هو والله أبو ذر. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رحم الله أبا ذر، يمشي وحده، ويموت وحده، ويبعث وحده". ولما كان أبو ذر في الرّبذة (ولا زالت آثارها جنوب شرق الحناكية, على الشرق من المدينة النبوية بمئتي كيلٍ تقريباً) حضره الموت ولم يكن معه أحد إلا امرأته وغلامه، فأوصاهما؛ أن اغسلاني وكفناني، ثم ضعاني على قارعة الطريق فأول ركب يمر بكم فقولوا هذا أبو ذر صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم, فأعينونا على دفنه فلما مات فَعَلا ذلك به, ثم وضعاه على قارعة الطريق. وأقبل عبدالله بن مسعود في رهط من أهل العراق عُمّار, فلم يرعهم إلا بالجنازة على ظهر الطريق قد كادت الإبل تطؤها، وقام إليهم الغلام، فقال: هذا أبو ذر صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأعينونا على دفنه. قال: فاستهل عبدالله بن مسعود يبكي ويقول: صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، تمشي وحدك، وتموت وحدك، وتبعث وحدك. ثمّ نزل هو أصحابه فواروه، ثم حدثهم عبد الله بن مسعود حديثه، وما قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسيره إلى تبوك.
وفي الزاد: وفي قوله صلى الله عليه وسلم: "إن بالمدينة أقواماً ما سرتم مسيراً، ولا قطعتم وادياً إلا كانوا معكم" رواه مسلم, فهذه المعية هي بقلوبهم وهممهم, وكانوا معه بأرواحهم، وبدار الهجرة بأشباحهم، وهذا من الجهاد بالقلب، وهو أحد مراتبه الأربع، وهي: القلب، وللسان، والمال، والبدن، وفي الحديث: "جاهدوا المشركين بألسنتكم وقلوبكم وأموالكم" أخرجه أحمد وأبو داود بسند صحيح.
وهلك رهط من المنافقين باستهزائهم؛ فقال بعضهم لبعض: أتحسبون جلاد بني الأصفر كقتال العرب بعضهم بعضاً! والله لكأنّا بكم غداً مقرنين في الحبال، إرجافاً وترهيباً للمؤمنين(وتأمّل أشباههم في ذا الزمان) فقال مخشن بن حمير: والله لوددت أني أقاضى على أن يضرب كل رجل منا مائة جلدة، وإنا ننفلت أن ينزل فينا قرآن لمقالتكم هذه. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمار بن ياسر: أدرك القوم، فإنهم قد احترقوا، فسلهم عما قالوا، فإن أنكروا فقل: بلى, قلتم كذا وكذا. فانطلق إليهم عمار، فقال ذلك لهم، فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتذرون إليه، فقال وديعة بن ثابت ورسول الله صلى الله عليه وسلم واقف على ناقته، فجعل يقول وهو آخذ بحقبها: يا رسول الله، إنما كنا نخوض ونلعب؛ فأنزل الله عز وجل: "ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم" (التوبة: 65_66) وقال مخشن بن حمير: يا رسول الله، قعد بي اسمي واسم أبي، وكان الذي عفى عنه في هذه الآية مخشن بن حمير، فتسمى عبدالرحمن، وسأل الله تعالى أن يقتله شهيداً لا يعلم بمكانه، فقتل يوم اليمامة، فلم يوجد له أثر) قال كعب رضي الله عنه: "وَلَمْ يَذْكُرْنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى بَلَغَ تَبُوكَ, فَقَالَ وَهُوَ جَالِسٌ فِي الْقَوْمِ بِتَبُوكَ مَا فَعَلَ كَعْبٌ؟" (وفيه اهتمام رسول الله صلى الله عليه وسلم بأصحابه, وتفقده أحوالهم, فلم ينس كعباً مع زحمة الأُلوف من أصحابه) "فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي سَلِمَةَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ حَبَسَهُ بُرْدَاهُ وَنَظَرُهُ فِي عِطْفِهِ" (وهذه زلّة, فالواجب إحسان الظنّ وتلمّس العذر, والعافية لا يعدلها شيء, خاصة فيما يتعلق بحقوق العباد فمبناها على المشاحّة, وإن كان بعض أهل العلم يسوّغون ذلك لمن صدق الله في قوله, وغضباً لدينه, وغلب على ظنه حقيقة من اتهم, مع بعض قرينة, ولكن من له بالسلامة والعافية؟!) "فَقَالَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ: بِئْسَ مَا قُلْتَ! وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ إِلَّا خَيْرًا" (وهذا من بركة علمه رضي الله عنه, وفي مصنف ابن أبي شيبة عن أبي الدرداء رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من ذب عن عرض أخيه كان له حجاباً من النار" وعند الترمذي: "رد الله عن وجهه النار" وقال صلى الله عليه وسلم: "والمسلم أخو المسلم...ولا يخذله" رواه مسلم, ولم يحسن من نقل خبر كلام ابن عم كعب فيه لأن هذا من النميمة) "فَسَكَتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ" (لعلّه اكتفى بذبّ معاذ عن عرض أخيه المسلم, وهو لم يسمع حجة كعب بعد) "قَالَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ: فَلَمَّا بَلَغَنِي أَنَّهُ تَوَجَّهَ قَافِلًا؛ حَضَرَنِي هَمِّي, (وذهبت عنه لذة القعود والراحة, وحضره الحقّ واليقين, واشتعلت جذوة الإيمان بندم التفريط وحسرة التهاون) "وَطَفِقْتُ أَتَذَكَّرُ الْكَذِبَ, وَأَقُولُ: بِمَاذَا أَخْرُجُ مِنْ سَخَطِهِ غَدًا؟ وَاسْتَعَنْتُ عَلَى ذَلِكَ بِكُلِّ ذِي رَأْيٍ مِنْ أَهْلِي, فَلَمَّا قِيلَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أَظَلَّ قَادِمًا؛ زَاحَ عَنِّي الْبَاطِلُ, وَعَرَفْتُ أَنِّي لَنْ أَخْرُجَ مِنْهُ أَبَدًا بِشَيْءٍ فِيهِ كَذِبٌ فَأَجْمَعْتُ صِدْقَهُ" (وهذا من تثبيت الله تعالى له, فأعظم الخذلان؛ هو الخذلان عند ورود الطاعات, وهذا التثبيت والتوفيق من الله, ببركة أعماله الصالحة الماضية, وصدق نيته مع ربّه, ومن ذكر الله في الرخاء ذكره الله في الشدة.
قال ابن إسحاق: ثم أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزل بذي أوان، بلد بينه وبين المدينة ساعة من نهار، وكان أصحاب مسجد الضرار قد كانوا أتوه وهو يتجهز إلى تبوك، فقالوا: يا رسول الله، إنا قد بنينا مسجداً لذي العلة والحاجة والليلة المطيرة والليلة الشاتية، وإنا نحب أن تأتينا، فتصلي لنا فيه؛ فقال: إني على جناح سفر، وحال شغل، أو كما قال صلى الله عليه وسلم، ولو قد قدمنا إن شاء الله لأتيناكم، فصلينا لكم فيه. فلما نزل بذي أوان أتاه خبر المسجد، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم مالك ابن الدخشم، أخا بني سالم بن عوف ومعن بن عدي، أو أخاه عاصم بن عدي، أخا بني العجلان، فقال: "انطلقا إلى هذا المسجد الظالم أهله، فاهدماه وحرقاه" فخرجا سريعين حتى أتيا بني سالم بن عوف، وهم رهط مالك بن الدخشم، فقال مالك لمعن: أنظرني حتى أخرج إليك بنار من أهلي. فدخل إلى أهله، فأخذ سعفاً من النخل، فأشعل فيه ناراً, ثم خرجا يشتدان حتى دخلاه وفيه أهله، فحرقاه وهدماه، وتفرقوا عنه، ونزل فيهم من القرآن ما نزل: "والذين اتخذوا مسجداً ضراراً وكفراً وتفريقاً بين المؤمنين وإرصاداً لمن حارب الله ورسوله وليحلفن إن أردنا إلا الحسنى والله يشهد إنهم لكاذبون" (التوبة: 107).
قال ابن القيم في الزاد: ومن الفوائد؛ تحريق أمكنة المعصية التي يُعصى الله ورسوله فيها وهدمها، كما حرق رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم مسجد الضرار، وأمر بهدمه وهو مسجد يُصلَّى فيه، ويُذكر اسمُ الله فيه، لما كان بناؤه ضراراً وتفريقاً بين المؤمنين، ومأوى للمنافقين، وكل مكان هذا شأنه، فوجب على الإمام تعطيله، إمَّا بهدمٍ وتحريق، وإمَّا بتغيير صورته وإخراجه عمَّا وُضِع له. وإذا كان هذا شأنَ مسجد الضِّرار فمشاهد الشِّرك التي يدعو سدنتُها إلى اتخاذِ من فيها أنداداً من دون الله أحقُّ بالهدمِ وأوجب، وكذا محال المعاصي والفسوق، كالحانات وبيوت الخمَّارين وأرباب المنكرات) قال كعب: "وَأَصْبَحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَادِمًا, وَكَانَ إِذَا قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ بَدَأَ بِالْمَسْجِدِ فَيَرْكَعُ فِيهِ رَكْعَتَيْنِ" (وهذه سُنّة مهجورة عند الكثير) "ثُمَّ جَلَسَ لِلنَّاسِ, فَلَمَّا فَعَلَ ذَلِكَ, جَاءَهُ الْمُخَلَّفُونَ" (وكفى بهذه التسمية مذمّة, لذا تبرّأ منها كعب كما يأتي, فكثير منهم: "لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلّا خبالاً ولأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة وفيكم سمّاعون لهم والله عليم بالظالمين" (التوبة: 47) "فَطَفِقُوا يَعْتَذِرُونَ إِلَيْهِ, وَيَحْلِفُونَ لَهُ" (قال تعالى: "يعتذرون إليكم إذا رجعتم إليهم قل لا تعتذروا لن نؤمن لكم قد نبأنا الله من أخباركم وسيرى الله عملكم ورسوله ثم تردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون . سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم لتعرضوا عنهم فأعرضوا عنهم إنهم رجس ومأواهم جهنم جزاء بما كانوا يكسبون . يحلفون لكم لترضوا عنهم فإن ترضوا عنهم فإن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين" (التوبة:94_96) " وَكَانُوا بِضْعَةً وَثَمَانِينَ رَجُلًا" (قال الحافظ: ذكر الواقدي؛ أن هذا العدد كان من منافقي الأنصار، وأن المعذرين من الأعراب كانوا أيضا اثنين وثمانين رجلاً من بني غفار وغيرهم، وأن عبد الله بن أبي ومن أطاعه من قومه كانوا من غير هؤلاء, وكانوا عدداً كثيراً) "فَقَبِلَ مِنْهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَانِيَتَهُمْ وَبَايَعَهُمْ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمْ وَوَكَلَ سَرَائِرَهُمْ إِلَى اللَّهِ" (وهذه منهجه وسَنَنُه صلى الله عليه وسلم, وهذا الفعل تطبيق لقوله عليه الصلاة والسلام: "إني لم أؤمر أن أنقب قلوب الناس ولا أن أشق بطونهم" رواه مسلم) "فَجِئْتُهُ, فَلَمَّا سَلَّمْتُ عَلَيْهِ تَبَسَّمَ تَبَسُّمَ الْمُغْضَبِ" (فقد كان وجهه صلى الله عليه وسلم يُظهر ما في نفسه الشريفه, فلا يبدي ما لا يخفي, فتبسم لحسن ظنه بكعب, وأظهر الغضب لمنكره, وهذه نفيسة عدلية) "ثُمَّ قَالَ: تَعَالَ, فَجِئْتُ أَمْشِي حَتَّى جَلَسْتُ بَيْنَ يَدَيْهِ" (وهذا من تواضع المصطفى صلى الله عليه وسلم, فلا حُجّاب ولا حشم, ولا أبواب ولا سُرُر, بل في المسجد على الأرض, وهو خيرة خلق الله تعالى) "فَقَالَ لِي: مَا خَلَّفَكَ؟ أَلَمْ تَكُنْ قَدْ ابْتَعْتَ ظَهْرَكَ؟" (وفي هذا السؤال قبل العتب. كما قيل:
تأنّ ولا تعجل بلومك صاحباً لعلّ له عذرٌ وأنت تلومُ
وهذا من كمال خلقه صلى الله عليه وسلم) "فَقُلْتُ: بَلَى, إِنِّي وَاللَّهِ لَوْ جَلَسْتُ عِنْدَ غَيْرِكَ مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا لَرَأَيْتُ أَنْ سَأَخْرُجُ مِنْ سَخَطِهِ بِعُذْرٍ, وَلَقَدْ أُعْطِيتُ جَدَلًا, وَلَكِنِّي وَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُ لَئِنْ حَدَّثْتُكَ الْيَوْمَ حَدِيثَ كَذِبٍ تَرْضَى بِهِ عَنِّي, لَيُوشِكَنَّ اللَّهُ أَنْ يُسْخِطَكَ عَلَيَّ" (فالعبرة بحقائق الآخرة الباقية, لا أحلام الدنيا الفانية, وأعراضها الزائلة, وهذا في غاية الفقه والتوفيق) "وَلَئِنْ حَدَّثْتُكَ حَدِيثَ صِدْقٍ تَجِدُ عَلَيَّ فِيهِ, إِنِّي لَأَرْجُو فِيهِ عَفْوَ اللَّهِ, لَا وَاللَّهِ مَا كَانَ لِي مِنْ عُذْرٍ, وَاللَّهِ مَا كُنْتُ قَطُّ أَقْوَى وَلَا أَيْسَرَ مِنِّي حِينَ تَخَلَّفْتُ عَنْكَ" (وتأمل صدقه ويقينه وقوته على نفسه في الحق, فلله دره من صاحبٍ رَضيّ, وصادقٍ مَرْضِيّ, لهذا فقد استحق مدح الله تعالى له بأن أمر المؤمنين بأن يكونوا مع الصادقين في ختام ذكر خبره وصاحبيه في سورة التوبة "يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين" (التوبة: 119) وهي وإن كانت ليست خاصة بهم إلا أنهم يدخلون فيها دخولاً أولياً لصدعهم بالصدق حين توارى أهل النفاق تحت حندس الكذب, وظلام الزور.
وفضائل وأخبار وثمار الصدق مع الله تعالى كثيرة, منها ما رواه النسائي وصححه الألباني عن شداد بن الهاد رضي الله عنه أن رجلاً من الأعراب جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فآمن به واتبعه, ثم قال: أهاجر معك, فأوصى به النبي صلى الله عليه وسلم بعض أصحابه, فلما كانت غزوة غنم النبي صلى الله عليه وسلم سبياً, فقسم وقسم له فأعطى أصحابه ما قسم له, وكان يرعى ظهرهم فلما جاء دفعوه إليه فقال: ما هذا؟ قالوا: قسم قسمه لك النبي صلى الله عليه وسلم, فأخذه فجاء به إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ما هذا؟ قال: "قسمته لك" قال: ما على هذا اتبعتك, ولكني اتبعتك على أن أرمى إلى هاهنا, وأشار إلى حلقه, بسهم فأموت فأدخل الجنة فقال: "إن تصدق الله يصدقك" فلبثوا قليلاً, ثم نهضوا في قتال العدو, فأُتيَ به النبي صلى الله عليه وسلم يُحمل قد أصابه سهم حيث أشار, فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أَهُوَ هُوَ؟" قالوا: نعم, قال: "صدق الله فصدقه" ثم كفنه النبي صلى الله عليه وسلم في جبة النبي صلى الله عليه وسلم, ثم قدمه فصلى عليه, فكان فيما ظهر من صلاته: "اللهم هذا عبدك, خرج مهاجراً في سبيلك, فقتل شهيداً, أنا شهيد على ذلك".
وهذا سعد بن خيثمة الأنصاري رضي الله عنه: لما ندب رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس إلى غزوة بدر قال له أبوه خيثمة: إنه لا بد لأحدنا أن يقيم فآثرني بالخروج وأقم مع نسائك, فأبى سعد وقال: لو كان غير الجنة آثرتك به, إني لأرجو الشهادة في وجهي هذا، فاستهما فخرج سهم سعد فخرج فقتل ببدر. وهذا سالم مولى أبي حذيفة رضي الله عنه لما كان يوم اليمامة وانكشف صفّ المسلمين حفر سالم لنفسه حفرة, وتحنط بحنوطه, وأمسك براية المهاجرين، فقالوا له:يا سالم إنا نخشى أن نؤتى من قبلك فقال: بئس حامل القرآن إذا أنا _وتأمل نفاسة هذا القول العظيم, وعمق دلالاته, وثقل مسؤولية حملة القرآن, وصدق وفائه به رضي الله عنه_ فأخذ اللواء بيمينه فقطعت, فرفعه بشماله فقطعت, فاعتنق اللواء وجعل يقرأ: "وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئاً وسيجزي الله الشاكرين" (آل عمران: 144) إلى أن قتل، جزاه الله جزاء الشاكرين. وهكذا استشهد حامل القرآن في الميدان, ومن أولى بهذا الفضل منه؟! وقد قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الحمد لله الذي جعل في أمتي مثله" أخرجه البزار, ووثق رجاله الحافظ ابن حجر.
وعن ابن المسيِّب رحمه الله، قال: أقبل صُهيب مهاجرًا، واتبعه نفرٌ، فنزل عن راحلته، ونثل كِنانته، وقال: لقد علمتم أني من أرماكم، وايمُ الله لا تصلون إليَّ حتى أرمي بكل سهم معي، ثم أضربُكم بسيفي، فإن شئتُم دللتُكم على مالي، وخلَّيتُم سبيلي؟ قالوا: نفعل, فلما قدم على النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ربح البيعُ أبا يحيى" ونزلت: "وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ" (البقرة: 207).
وأسند الواقدي رحمه الله عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: رأيتُ عمارًا يوم اليمامة على صخرة وقد أشرف يصيح: يا معشر المسلمين، أَمِن الجنة تَفِرُّون، أنا عمارُ بن ياسر، هلمُّوا إليَّ! وأنا أنظر إلى أذنه قد قطعت، فهي تَذَبْذَبُ وهو يُقاتلُ أشد القتال.
ومن المقولات الخالدة لسيف الله خالد بن الوليد رضي الله عنه: ما من ليلة يُهدى إليَّ فيها عروسٌ أنا لها مُحِبٌّ؛ أحبّ إليَّ من ليلة شديدة البرد، كثيرة الجليد في سريَّةٍ أُصَبِّحُ فيها العَدُوَّ.
وعن خارجة بن زيد بن ثابت، عن أبيه قال : بعثني النبي صلى الله عليه وسلم يوم أُحد أطلب سعد بن الربيع، فقال لي: "إنْ رأيتَه، فأقْرِه مني السلام، وقل له: يقول لك رسول الله: كيف تجدك؟" فطفتُ بين القتلى، فأصبته وهو في آخر رمق وبه سبعون ضربة فأخبرته، فقال: على رسول الله السلام وعليك، قل له: يا رسول الله! أجد ريح الجنة، وقل لقومي الأنصار: لا عذر لكم عند الله إن خُلِصَ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيكم شفْر يطرف، قال: وفاضت نفسه رضي الله عنه.
وعن جُبير بن نُفَير قال: جلسنا إلى المقداد بن الأسود بدمشق وهو يحدثنا وهو على تابوت ما به عنه فضل، فقال له رجل: لو قعدت العام عن الغزو؟ قال: أبت البَحوث _يعني سورة التوبة_ قال الله تبارك وتعالى: "انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً" (التوبة: 41) قال أبو عثمان: بحثت المنافقين.
وعن حَمَّادِ بنِ سلمة، وعن أنس رضي الله عنه: أنَّ أبا طلحة قرأ: "انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً"(التوبة: 41) فقال: استنفرنا الله، وأمرنا شيوخنا وشبابنا، جهزوني. فقال بنوه: يرحمُك الله, إنك قد غزوت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر، وعمر، ونحن نغزو عنك الآن. قال: فغزا البحر، فمات، فلم يجدوا له جزيرة يدفنونَه فيها إلاَّ بعد سبعة أيام، فلم يتغير.
وعن أنس رضي الله عنه قال: بعث النبي صلى الله عليه وسلم أقوامًا من بني سليم إلى بني عامر في سبعين, فلما قدموا قال لهم خالي: أتقدمكم، فإن أمنوني حتى أبلغهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلا كنتم مني قريبًا، فتقدم فأمَّنوه، فبينما يحدثهم عن النبي صلى الله عليه وسلم إذ أومؤوا إلى رجل منهم؛ فطعنه فأنفذه, فقال: الله أكبر، فزت ورب الكعبة. ثم مالوا على بقية أصحابه فقتلوهم إلا رجلاً أعرج صعد الجبل، فأخبر جبريل عليه السلام النبي صلى الله عليه وسلم أنهم لقوا ربهم فرضي عنهم وأرضاهم.
وعن ثابت البناني عن ابن أبي ليلى، أن ابن أم مكتوم قال: أي ربِّ, أنزل عذري. فأنزلت: "غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ" (النساء: 95) فكان بعدُ يغزو ويقولُ: ادفعوا إليَّ اللواءَ، فإني أعمى لا أستطيع أن أفِرَّ، وأقيموني بين الصفين.
وروى ابن الجوزي رحمه الله عن جعفر بن عبدالله بن أسلم قال: لما كان يوم اليمامة واصطف الناس كان أول من جُرح أبو عَقِيل عبدالرحمن بن ثعلبه؛ رُمي بسهم فوقع بين منكبيه وفؤادِه في غير مَقتل، فأخرج السهم ووهَن له شقَّه الأيسر في أول النهار، وجُرَّ إلى الرحل. فلما حمي القتال وانهزم المسلمون وجاوزوا رحالهم، وأبو عقيل واهن من جرحه، سمع معن بن عدي يصيح يا للأنصار! الله الله والكرّة على عدوكم· قال عبدالله بن عمر: فنهض أبو عقيل يريد قومه، فقلت: ما تريد؟ ما فيك قتال· قال: فد نوَّه المنادي باسمي قال ابن عمر: فقلت له: إنما يقول: يا للأنصار! ولا يعني الجرحى, قال أبو عقيل: أنا من الأنصار، وأنا أجيبه ولو حَبْوًا. قال ابن عمر: فتحزَّم أبو عقيل وأخذ السيف بيده اليمنى، ثم جعل ينادي: يا للأنصار، كرَةً كيوم حُنين فاجتمعوا رحمكم الله جميعاً تقدّموا فالمسلمون دريئة دون عدوهم، حتى أقحموا عدوّهم الحديقة, فاختلطوا واختلفت السيوف بيننا وبينهم. قال ابن عمر: فنظرت إلى أبي عقيل وقد قُطعت يده المجروحة من المنكب فوقعتْ إلى الأرض وبه من الجراح أربعة عشر جرحًا كلها قد خلصت إلى مقتل، وقُتل عدو الله مسيلمة· قال ابن عمر فوقفت على أبي عقيل وهو صريع بآخر رمق فقلت: يا أبا عقيل! قال: لبيك, بلسان ملتاث, لمن الدَبرَة؟ قلت: أبشر قد قتل عدو الله, فرفع إصبعه إلى السماء يحمد الله. ومات يرحمه الله, قال ابن عمر: فأخبرت عمر، بعد أن قدمت، خبره كله, فقال: رحمه الله؛ ما زال يسعى للشهادة ويطلبها، وإن كان _ما علمت_من خيار أصحاب نبينا صلى الله عليه وسلم وقديم إسلامهم رضي الله عنهم.
وعن محمد بن سعد قال: أتى واثلة بن الأسقع رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى معه الصبح. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى وانصرف تصفح أصحابه, فلما دنا من واثلة قال: من أنت؟ فأخبره فقال: ما جاء بك؟ قال: جئت أبايع. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فيما أحببتَ وكرهتَ؟ قال: نعم· قال: فيما أطقت؟ قال: نعم· فأسلم وبايعه. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتجهز يومئذ إلى تبوك فخرج واثلة إلى أهله فلقي أباه الأسقع فلما رأى حاله, قال: قد فعلتها؟ قال: نعم. قال أبوه: والله لا أكلمك أبداً. فأتى عمه فسلم عليه، فقال: قد فعلتها؟ قال: نعم. فلامه أيسر من ملامة أبيه وقال: لم يكن ينبغي لك أن تسبقنا بأمر. فسمعت أخت واثلة كلامه, فخرجت إليه وسلمت عليه بتحية الإسلام. فقال واثلة: أنىَّ لكِ هذا يا أخيّة؟ قالت: سمعت كلامك وكلام عمك فأسلمت. فقال: جهّزي أخاك جهازَ غَازٍ؛ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم على جناح سفر. فجهزته فلحق برسول الله صلى الله عليه وسلم قد تحمَّل إلى تبوك وبقي غُبَّراتٌ من الناس وهم على الشخوص, فجعل ينادي بسوق بني قينقاع: من يحملني وله سهمي؟ قال: وكنت رجلاً لا رِحلة بي. قال: فدعاني كعب بن عُجْرة فقال: أنا أحملك عقبة بالليل وعقبة بالنهار, ويدك أسوة يدي وسهمك لي. قال واثلة: نعم. قال واثلة: جزاه الله خيرًا؛ لقد كان يحملني ويزيدني, وآكل معه ويرفع لي، حتى إذا بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد إلى أكيدر بن عبدالملك بدومة الجندل خرج كعب في جيش خالد وخرجت معه فأصبنا فيئًا كثيرًا فقسمه خالد بيننا فأصابني ست قلائص, فأقبلت أسوقها حتى جئت بها خيمة كعب بن عجرة فقلت: اخرج رحمك الله فانظر إلى قلائصك فاقبضها. فخرج وهو يبتسم ويقول: بارك الله لك فيها, ما حملتك وأنا أريد أن آخذ منك شيئًا. رضي الله عنهما.
وعن عبدالله بن قيس أبي أميَّة الغفاري قال: كنا في غزاة لنا, فحضر عدوهم فصيح في الناس فهم يثوبون إلى مصافّهم، إذا رجل أمامي، رأس فرسي عند عجز فرسه، وهو يخاطب نفسه ويقول: أي نفس ألم أشهد مشهد كذا وكذا, فقلتِ لي: أهلك وعيالك، فأطعتُك ورجعتُ؟ ألم أشهد مشهد كذا وكذا فقلت: أهلك وعيالك فأطعتك ورجعت؟ والله لأعرضنَّك اليوم على الله، أخذك أو تركك. فقلت: لأرمقنه اليوم. فرمقته فحمل الناسُ على عدوهم فكان في أوائلهم، ثم إن العدو حمل على الناس فانكشفوا فكان في حماتهم، ثم إن الناس حملوا فكانوا في أوائلهم، ثم حمل العدو وانكشف الناس فكان في حماتهم. قال: فوالله ما زال ذلك دأبه حتى رأيته صريعًا. فعددتُ به وبدابته ستين، أو أكثر من ستين طعنة.
وعن ابن المبارك أن رجلاً قال لصلة: يا أبا الصهباء! رأيت أني أُعطيتُ شهدة، وأُعطيتَ شهدتين، فقال تُستشهد وأنا وابني، فلما كان يوم يزيد بن زياد؛ لقيتهم التركُ بسجستان فانهزموا. وقال صلة: يا بُني ارجع إلى أمك. قال: يا أبت, تريدُ الخير لنفسك، وتأمرني بالرجوع! قال فتقدم، فتقدم، فقاتل حتى أصيب فرمى صلة عن جسده -وكان راميًا- حتى تفرقوا عنه فأقبل حتى قام عليه, فدعا له, ثم قاتل حتى قتل رحمه الله. وقال حماد بن سلمة: أخبرنا ثابت أن صِلَةَ كان في الغزو، ومعه ابنه، فقال: أي بُنَي! تقدَّمْ، فقاتل حتى أَحْتَسبك، فحمل، فقاتل، حتى قُتِلَ، ثم تقدَّم صِلَةُ، فقُتل، فاجتمع النساءُ عند امرأته معاذة، فقالت: مرحباً إن كُنْتُنَّ جئتُنَّ لتُهنِّئنني، وإن كُنتُنَّ جِئتُنَّ لغير ذلك، فارجعْنَ.
وعن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت: لما توجه النبيُّ صلى الله عليه وسلم من مكة حمل أبو بكر معه جميع ماله, خمسة آلاف، أو ستة آلاف, فأتاني جدِّي أبو قُحافة وقد عمِي، فقال: إن هذا قد فجعكم بماله ونفسه. فقلتُ: كلا، قد ترك لنا خيرًا كثيرًا. فعمِدْتُ إلى أحجارِ، فجعَلْتُهنَّ في كوَّة البيت، وغطيتُ عليها بثوب، ث