الحمد لله رب العالمين ولي الصالحين والهادي إلى سواء السبيل ، أحمده واثني عليه الخير كله فله الحمد وله الشكر في الأولى والآخرة ، وله الثناء الحسن .
وصلى الله وسلم على خير نبي أرسل ، إما م المتقين وقائد الغر المحجلين وصفوته من بين خلقه أجمعين ، الرحمة المهداة الى العالمين من الجن والإنس ، أرسله بدين الهدى للناس كافة ليخرج الناس من الظلمات الى النور ، ورضي الله عن صحابته أجمعين .
أمــــا بعد .................: فهذه رسالة صغيرة الحجم كبيرة المضمون سهلة صافية مختصرة نافعة بأذن الله ، أسميتها بعنوان يدل على ما بداخلها من المحتوى ، ...... وأما محتواها فهو جمع لأقوال أهل العلم من السلف والخلف في ما جاء في الصلاة خلف الصبي الذي لم يبلغ الحلم ، تأتي على ثلاثة محاور مجزأة ...، فيها أقوال العلماء مع الدليل ، مع بيان أوجه الخلاف ثم الخلاصة ، فان كان فيها من صواب فالفضل لله أولا وآخرا ، وان كان فيها بعض الزلل فمني والشيطان .
1. من هو الصبي : الصبي هو سن ما دون البلوغ ، والبلوغ يحصل بواحد من أمور ثلاثة : تمام خمسة عشر سنة أو إنبات العانة أو إنزال المني بشهوة يقظةً أو مناماً . فالصبي هو مادون ذلك (1) . ذكرت هذا التفصيل لكي يتضح أن كلمة صبي لا تقال إلا لمن هو دون السن الذي تظهر عليه أحدى هذه الظواهر الثلاث المذكورة . وروى البخاري عن عمرو بن سلمة في الحديث الذي هو مدار هذا البحث قوله : ((... .. فنظروا فلم يكن أحد أكثر مني قرآنا ، فقدموني وأنا ابن ست أو سبع )) (2) .
والحديث فيه أنه تجوز إمامة من هو دون سن البلوغ . وللحديث قصة سوف يأتي بيانها في حينه ، وذكرته هنا شاهدا لكون الصبي هو الذي يبلغ مثل هذا السن أو قريبا ، ففي رواية النسائي ( وأنا ابن ثمان .. ) وأبو داود ( ..وأنا ابن سبع أو ثمان ) .
2. أقوال أهل العلم وأوجه استدلالاتهم : قبل البدء في ذكر الخلاف يجب أن أذكر أولا الحديث الذي استدل به من قال بالجواز وله قصة وهي : عن عمرو بن سلمة قال: (لما كانت وقعة الفتح بادر كل قوم بإسلامهم وبادر أبي قومي بإسلامهم فلما قدم قال: جئتكم من عند النبي صلى اللَّه عليه وسلم حقًا فقال: صلوا صلاة كذا في حين كذا وصلاة كذا في حين كذا فإذا حضرت الصلاة فليؤذن أحدكم وليؤمكم أكثركم قرآنًا فنظروا فلم يكن أحد أكثر قرآنًا مني لما كنت أتلقى من الركبان فقدموني بين أيديهم وأنا ابن ست سنين أو سبع سنين وكانت عليَّ بردة كنت إذا سجدت تقلصت عني فقالت امرأة من الحي: ألا تغطون عنا إست قارئكم فاشتروا فقطعوا لي قميصًا فما فرحت بشيء فرحي بذلك القميص). والحديث سبق تخريجه .
ذهب الشافعية إلى : صحة إمامته في الفرض والنفل ، ودليلهم الحديث الذي معنا ، وأن من صحة صلاته لنفسه صحت لغيره ، وهو رواية عن الإمام أحمد ، ويشهد لها عموم قوله : (( يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله )) (3) . ومن جازت إمامته في النفل جازت في الفرض ، وهو اختيار الشيخ عبد الرحمن السعدي ، رحمه الله تعالى .
وممن ذهب مذهبهم ، أي في الجواز : الحسن البصري وإسحاق بن راهويه والإمام يحيى (4). قال الشوكاني في النيل : قوله: (فقدموني) فيه جواز إمامة الصبي. ووجه الدلالة ما في قوله صلى اللَّه عليه وسلم: (ليؤمكم أكثركم قرآنًا) من العموم.
ذهب المالكية والحنابلة : إلى عدم صحة إمامته في الفرض دون النفل ودليلهم ما روي عن ابن عباس : ( لا يؤم الغلام حتى يحتلم ) (5) .
ولان صلاة الصبي نافلة في حقه ، فصلاته بالمفترضين اختلاف في النية بين الإمام والمأمومين ، وقد قال صلى الله عليه وسلم : (( فلا تختلفوا عليه )) ، وأيضا لا يؤمن على الصبي ، ولا يستوثق من إتيانه بشروط الصلاة .
وقال به غير واحد من العلماء مستدلين أيضا بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم (( لا تقدموا سفهاءكم وصبيانكم في صلاتكم .... )) الحديث (6).
وأما ردهم على حديث إمامة عمرو بن سلمة لقومه ، قال احمد : ليس في إطلاع النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم . فأجابوا عليه بقولهم : زمن الوحي لا يقع التقرير فيه على ما لا يجوز، والمعنى أنه لو كان عملهم غير جائز في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم ووقت نزول الوحي لجاء التحريم والإخبار من الله بذلك ، دليلهم قول الصحابة ( كنا نعزل والقرآن ينزل ) ، فلو كان العزل لا يجوز لجاء التحريم من الله . والذين قدموا الصبي كلهم صحابة . قال ابن حزم: ولا نعلم لهم مخالفًا كذا في الفتح (7) .
ومما ذهب إليه المالكية والحنابلة وغيرهم ، في قصة عمرو بن سلمة ، إنما أم قومه في النافلة ، وأجيب عليهم : بأن قوله (صلوا صلاة كذا في حين كذا وصلاة كذا في حين كذا) يدل على أن ذلك كان في فريضة. وأيضًا قوله (فإذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم) لا يحتمل غير الفريضة لأن النافلة لا يشرع لها الأذان.
وممن كره الصلاة خلف الصبي ، الإمام الشعبي ، والأوزاعي والثوري .
ذهب الحنفية : إلى عدم الجواز في الفرض والنفل مطلقا .
. ومن جملة حجج القائلين بأن إمامة الصبي لا تصح حديث: (رفع القلم عن ثلاثة) ورد بأن رفع القلم لا يستلزم عدم الصحة.
ومن جملتها أن صلاته غير صحيحة لأن الصحة معناها موافقة الأمر والصبي غير مأمور ورد بمنع أن ذلك معناها بل معناها استجماع الأركان وشروط الصحة ولا دليل على أن التكليف منها.
ومن جملتها أيضًا أن العدالة شرط لما مر والصبي غير عدل ورد بأن العدالة نقيض الفسق وهو غير فاسق لأن الفسق فرع تعلق الطلب ولا تعلق وانتفاء كون صلاته واجبة عليه لا يستلزم عدم صحة إمامته لما قرر من صحة صلاة المفترض خلف المتنفل. ذهب إلى جواز المفترض خلف المتنفل كثير وأدلتهم واضحة .
3. الخلاصة : سأورد هنا ما قاله العلامة الشيخ محمد بن صالح العثيمين في كتابه الشرح الممتع ، وما قاله العلامة الشيخ البسام في كتابه توضيح الأحكام من بلوغ المرام ، عليهما رحمة الله .
قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله تعالى شارحا على زاد المستقنع :
وقوله : (( لا صبي لبالغ )) أي : أن الصبي إذا صار إماما ، والبالغ مأموما ، فصلاة البالغ لا تصح لدليلين ؛ أثري ونظري .
أما الأثري ؛ فهو ما يذكر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : (( لا تقدموا سفهاءكم وصبيانكم في صلاتكم ...... )) .
وأما النظري ؛ فهو أن صلاة الصبي نفل ، وصلاة البالغ فرض . والفرض أعلى رتبة من النفل ، فإذا كان أعلى رتبة فكيف يكون صاحبه تابعا من هو أدنى منه رتبة ؛ لأننا لو صححنا صلاة البالغ خلف الصبي لجعلنا الأعلى تابعا لما دونه ؛ وهذا خلاف القياس ، والقياس أن يكون الأعلى متبوعا لا تابعا .
وقوله : (( لبالغ )) يفهم منه أن إمامة الصبي للصبي جائزة ، وهو كذلك ، وهذا ما ذهب إليه المؤلف رحمه الله . ( وهذا هو القول الأول ) .
القول الثاني : أن صلاة البالغ خلف الصبي صحيحة .
ودليل ذلك : ما ثبت في (( صحيح البخاري )) ، من حديث عمرو بن سلمة الجرمي عندما أم قومه .... الحديث .
أما حديث : (( لا تقدموا صبيانكم في صلاتكم )) ، فهو حديث لا أصل له إطلاقا ، فلا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم .
وأما التعليل : فقد علمنا القاعدة وهي أنه لا قياس في مقابلة النص ؛ لان القياس رأي يخطئ ويصيب ولا يجوز القول في الدين بالرأي ، فإذا كان لدينا حديث صحيح فان الرأي أمامه ليس بشئ .
لكن ؛ قد يعترض معترض فيقول : هل علم بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم أو لم يعلم ؟ الجواب : إما أن نقول : أنه علم . وإما أن نقول : أنه لم يعلم . وإما أن نقول : لا ندري . فان كان قد علم فالاستدلال بهذه السنة واضح ، وان علمنا انه لم يعلم فإننا نقول : إن الله قد علم ، وإقرار الله للشئ في زمن نزول الوحي دليل على جوازه وانه ليس بمنكر ؛ لا نه لو كان منكرا لا نكره الله ، وان كان الرسول لم يعلم به ، ودليل ذلك :
أولا : قول الله تعالى : { يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله وهو معهم إذ يبيتون مالا يرضى من القول وكان الله بما يعملون محيطا }(
.فأنكر الله عليهم تبييتهم للقول مع أن الناس لا يعلمون به لأنهم إنما بيتوا أمرا منكرا فدل هذا على أن الأمر المنكر لا يمكن أن يدعه الله ، وان كان الناس لا يعلمون به .
ثانيا : أن الصحابة استدلوا على جواز العزل بأنهم كانوا يعزلون والقرآن ينزل . وهذا الاستدلال منهم بإقرار الله تعالى . انتهى كلامه يرحمه الله .
قال الشيخ البسام رحمه الله تعالى في كتابه توضيح الأحكام من بلوغ المرام :
بعد ذكر حديث البخاري ؛ عن عمرو بن سلمة ؛ فيه جواز إمامة من لم يبلغ من المميزين حتى في الفرض ، فان قيل : لعل النبي صلى الله عليه وسلم لم يعلم عن إمامته قومه ؟
فالجواب : أن الله قد علم ذلك بلا شكك ، وكون الله تعالى أقره ، ولم ينزل على نبيه وحي على بطلان إمامته ، دليل على أن ما فعله حق ، وليس بباطل . انتهى كلامه رحمه الله .
هذا وأسأل الله عز وجل أن ينفع بهذه الرسالة قارئها ومدونها ، وأن يرزقنا علما يسهل به لنا طريقا الى الجنة ، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين . وصلى الله وسلم على نبينا محمد .
(منقول)