لم تعرف البشرية أحداً قبل الإسلام ، حرص على وضع قواعد صارمة تكفل حقوق الرقيق، وتأمر بالإحسان إليهم – طوال الفترة الانتقالية – إلى أن يجعل الله لهم سبيلاً إلى الحرية بالوسائل العديدة والمتنوعة التي وضعها لذلك .
قال الله تعالى في الآية 36 من سورة النساء : "وبالوالدين إحساناً وبذي القربى واليتامى والمساكين والجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب وابن السبيل وما ملكت أيمانكم .." يقول الإمام القرطبي تعليقاً على قوله تعالى " وماملكت أيمانكم" : "أمر الله تعالى بالإحسان إلى المماليك" ، ثم أورد رضي الله عنه عدة أحاديث صحيحة تُفَصِّل كيفية معاملة العبيد بالحسنى ، منها ما رواه الإمام مسلم وغيره عن المعرور بن سويد قال: مررنا بأبي ذر بالربذة – من ضواحي المدينة المنورة – وعليه بُرُد (نوع من الثياب) وعلى غلامه مثله – أي وجدوه يُلْبس غلامه ثوباً كثوبه تماماً – فقلنا يا أبا ذر لو جمعت بينهما – بين الثوبين – كانت حُلّة ، فشرح لهم رضي الله عنه السبب في إكرامه لغلامه قائلاً : " إنه كان بيني وبين رجل من إخواني – الصحابة – كلام ، وكانت أمه أعجمية فَعَيَّرته بأمه ، فشكاني إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فلقيت النبي صلى الله عليه وسلم فقال " يا أبا ذر إنك امرؤ فيك جاهلية" – أي فيك عيب من عيوب الجاهلية ما زال بطبعك وهو معايرة الناس بأصولهم وأمهاتهم – فقلت – القائل هو أبو ذر – يا رسول الله من سب الناس سبوا أباه وأمه، قال النبي : " يا أبا ذر إنك امرؤ فيك جاهلية، هم إخوانكم جعلهم الله تحت أيديكم, فأطعموهم مما تأكلون ، وألبسوهم مما تلبسون, ولا تكلفوهم ما يغلبهم ، فإن كلفتموهم فأعينوهم" .
والحديث رواه البخاري أيضاً باختلاف يسير في الألفاظ (1) .
والحديث الشريف قاطع الدلالة في النهي عن الإساءة إلى العبيد وإثبات " أخوتهم " لمالكيهم، وتحريم سبهم أو معايرتهم بالرق . كما أن في الحديث أمر نبوي نبيل بإطعامهم من ذات الطعام الذي يتناوله السادة ، وكسوتهم من ذات الثياب ، وكذلك تحريم تكليف الرقيق بالأعمال الشاقة التي ترهقهم ، فإن لم يكن هناك مفر من أداء تلك الأعمال الشاقة فلابد أن يساعدهم السادة على أدائها بأنفسهم أو باستئجار من يعينهم عليها . وهناك حديث آخر لمسلم بذات المعنى : " للمملوك طعامه وكسوته ولا يُكَلَّف من العمل إلا ما يطيق" .. بل إن النبي صلى الله عليه وسلم حَرَّم مجرد أن يُنادى المملوك بكلمة : عبدي أو أمتي ، حفاظاً على مشاعر هؤلاء المساكين . وقال صلى الله عليه وسلم : "لا يقل أحدكم عبدي وأمتي وليقل فتاي وفتاتي" رواه البخاري وغيره . وهو أيضا التعبير الوارد فى الكتاب العزيز-فتى أو فتاة- فهل هناك تكريم ورعاية لمشاعر النفس الإنسانية المبتلاة بالرق أكثر من ذلك ؟!! ويعلق الإمام القرطبي على هذه الأحاديث الشريفة قائلاً : " ندب صلى الله عليه وسلم السادة إلى مكارم الأخلاق وحضَّهم عليها، وأرشدهم إلى الإحسان، وإلى سلوك طريق التواضع حتى لا يروا لأنفسهم مزيّة على عبيدهم ، إذ الكل عبيد الله والمال مال الله، ولكن سخَّر بعضهم لبعض " انتهى . وقد كان النبى صلى الله عليه وسلم عطوفا رحيما بالرقيق . وثبت أنه أوصى بالضعيفين المملوك والمرأة .و روى شعبة عن أنس أن الرسول عليه السلام" كان يركب الحمار ويلبس الصوف ويجيب دعوة المملوك" ، أى يلبى دعوة العبد الى طعامه جبرا لخاطره و لايتكبر عليهم، كما أنه لم يشتم أو يضرب عبدا ولا جارية قط. وتطبيقاً لهذا الهدي النبوي كان علي بن أبي طالب كرَّم الله وجهه يخص غلامه بالثياب الجديدة ويكتفي هو بالقديم من الملابس ، فلما تساءل الغلام قال له : يا بني إنك شاب تحتاج إلى الجديد ، أما أنا فقد كبرت سني وتكفيني ملابسي تلك . وكان رضي الله عنه يقول : إني أستحي من الله أن أسترق من يؤمن بالله واليوم الآخر .. وكان على بن الحسين يجلس إلى عبد أسود يستزيد منه علمًا وفقهًا ، وعندما عاب عليه البعض ذلك أجابهم قائلاً : إنما يجلس المرء حيث ينتفع .
وتطبيقاً لذلك الهدي أيضاً، نَهَر عمر بن الخطاب رضي الله عنه بعض السادة عندما وجدهم يتناولون الطعام، بينما مماليكهم واقفين بعيداً لا يشاركونهم فيه، وأصر رضي الله عنه على أن يجلس الأرقاء مع سادتهم للأكل من ذات الإناء . وكان رضي الله عنه يتفقد في خلافته – منطقة "العوالي" بالمدينة ، فإذا رأى عبيداً يقومون بأداء أعمال شاقة ، يأمر السادة بالتخفيف عنهم أو مساعدتهم على إنجازها . وشوهد سلمان الفارسي يعجن دقيقا, فلما سُئل عن ذلك قال : بعثنا الخادم في شيء، فكرهنا أن نجمع عليه عملين، وعن عبد الله بن عمرو أنه سأل وكيله على المال : أعطيت الرقيق طعامهم ؟ قال الوكيل : لا ، فصاح به عبد الله أن يسارع بإطعامهم ، وروى فى ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "كفى بالمرء إثماً أن يحبس عمن يملك قوتهم"(2) . وكان الناس لا يعرفون عبد الرحمن بن عوف إذا سار وسط مماليكه ، لأن الكل يلبس ثياباً واحدة .
القصاص من السيد
وليس هذا فحسب، بل إن من ضرب مملوكه فكفارته أن يعتقه ، كما سنبين لاحقاً، وكذلك من يؤذي عبده أو جاريته بأية صورة من صور الإيذاء البدني أو المعنوي ، فضلاً عن القصاص إن لم يقبل العبد المجني عليه بالتعويض أو العفو عن الجاني .
روى الشيخان وأبو داود والترمذي والنسائي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " من قتل عبده قتلناه ، ومن جَدَعَ عبده جدعناه ، ومن خصى عبده خصيناه "(3). واستناداً إلى هذا الحديث الشريف ذهب الرأي الراجح إلى أن الحُرّ يُقتل قِصاصاً إذا قتل عبداً متعمداً . قال الصنعاني في " سبل السلام " : والحديث دليل على أن السيد يُقاد بعبده في النفس – يُقتل إذا قتله – والأطراف – أي يقتص منه إذا قطع طرفاً أو جزءاً من جسم العبد – إذ الجدع هو قطع الأنف أو الأذن أو اليد أو الشفة كما في القاموس . ويقاس عليه إذا كان الجاني شخصا آخر غير السيد بطريق الأولى. وذهب النخعي وغيره إلى أنه يُقتل الحر بالعبد مطلقاً عملاً بالحديث المذكور، وأيده عموم قوله تعالى : "النفس بالنفس" المائدة : 45. انتهى(4) . ويحظر الحديث أيضاً عادة خصي العبيد الوحشية التي سادت في كل الأمم قبل الإسلام, وهي إزالة خصيتي العبد الذكر، ونص الحديث صراحة على خصي السيد نفسه إن أقدم على اغتيال رجولة العبد المسكين .
وحكى القرطبي عن نفر من الصحابة أنهم كانوا يقتصون من ولد السيد أيضاً إذا ضرب مملوك أبيه أو أمته أو جرحه ، فإذا أبى القصاص كانوا يحررون العبد أو الجارية المجني عليها عقاباً لأبيه المالك الذي لم يحسن تربية ولده و رعاية عبده (5) . ومنهم سويد بن مقرن رضى الله عنه الذى اقتص لعبد من ولده ، لأن ابنه لطم الفتى المسكين.
والواقع أن الأحاديث في الأمر بالإحسان إلى الرقيق والنهي عن أية إهانة أو إساءة إليهم هي أكثر من أن نحصرها جميعاً هنا ولكن نكتفي بعرض ما يتيسر منها .
وعلى سبيل المثال ذكّر النبي عليه السلام السادة بنعمة الله عليهم إذ جعلهم هم الأحرار وغيرهم مبتلى بالرق إلى حين . وقد خَصَّص الإمام الغزالي في كتابه الرائع "إحياء علوم الدين" بابًا كاملاً تحت عنوان : " حقوق المملوك " ، وكذلك فعل أبو داود فى سننه التى تحتوى بابا فى " حق المملوك" وغيرهم من علماء السلف رضي الله عنهم .
وذكر الإمام الغزالي في ذلك الباب قول الرسول صلى الله عليه وسلم للسادة " إن الله ملّككم إياهم، ولو شاء لملّكهم إياكم "(6) .فالله تعالى قادر على تبديل الحال إن شاء، فلتحمدوا الله أيها الأحرار، وبعض هذا الحمد أن تتقوا الله في الرقيق وتحسنوا إليهم، ولتلزموا التواضع لله ، ولتنبذوا الكبرياء والترفع عليهم ، وإلا أذاقكم الله هوان الرق بدوركم في الدنيا ، مع شدة العذاب في الآخرة . وقد ذكر الإمام القرطبي حديثاً في تفسيره للآية 36 من سورة النساء نصه : " لا يدخل الجنة سيئ الملكة " أي الذي يسيء معاملة من هم تحت يده . وقال عليه السلام أيضاً فيما يرويه القرطبي : " من قذف مملوكه بالزنا أقيم عليه الحد يوم القيامة ثمانين" ، أي إذا رمى السيد مملوكه البرئ بارتكاب الزنا ولم يقتص منه، فإن الله يطبق على السيد المفتري حد القذف يوم القيامة ثمانين جلدة ، وذلك هو العدل الإلهي المطلق ، فإن لم يطبق في الدنيا فلا مفر منه في الآخرة . وأورد القرطبي كذلك حديث أبي داود: قال صلى الله عليه وسلم "من لايمكم من مملوكيكم فأطعموه مما تأكلون ، وأكسوه مما تكسون ، ومن لا يلايمكم منهم فبيعوه ، ولا تعذّبوا خلق الله"- لايمكم معناها وافقكم - والحديث نص صريح قاطع في الأمر بحسن المعاملة والنهي عن التعذيب(7) .
إباحة الزواج بالرقيق
ومن مفاخر الإسلام العظيمة أنه أباح زواج الأحرار من الرقيق، بل هو محمول على الندب عند الجمهور لعموم قوله تعالى "وانكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم .." الآية 32 من سورة النور . و كان هذا محظوراً قبل الإسلام، وكانت القبائل الأوروبية تحكم على الحُرّة التي تتزوج بعبد أن يحرقا معاًّ !! وإذا تزوج حُرّ بأمة كان يسترق بدوره ويصبح عبداً !! أما في الإسلام فقد اتفق الفقهاء على إباحة أن ينكح العبد أمة، وأن تنكح الحُرّة عبداً إذا رضيت بذلك ، والرأي الراجح أنه يجوز للحُرّ أن ينكح أمة بإطلاق(
.
ومن يطالع السيرة العطرة وتاريخ الصحابة سوف يجد تطبيقات عملية كثيرة بهذا الخصوص . فقد زوّج النبي صلى الله عليه وسلم ابنة عمته زينب بنت جحش بمولاه زيد بن حارثة .. وذكر البخاري في باب الأكفاء في الدين أن أبا حذيفة زوّج ابنة أخيه هند بنت الوليد بن عتبة من مولى هو سالم رضي الله عنه . وأشار النبي صلى الله عليه وسلم على القرشية الحسيبة النسيبة فاطمة بنت قيس بالزواج من مولاه أسامة بن زيد , وفَضَّله على خاطبيها الآخرين معاوية بن أبي سفيان – وهو الحسيب النسيب – وأبي جهم وهو من الاحرار أيضا. وروى الحاكم وأبو داود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لقبيلة عربية عريقة : "يا بني بياضة أنكحوا أبا هند وأنكحوا إليه" ، وكان مولى لبني بياضة وكان حَجَّاماً . وتزوج بلال رضي الله عنه هالة بنت عوف وهي أخت عبد الرحمن بن عوف، وعرض عمر بن الخطاب ابنته حفصة على سلمان الفارسي رضي الله عنه قبل أن يخطبها النبي صلى الله عليه وسلم(9) انتهى .
وليس هناك في رأينا ما هو أقوى من هذا لإثبات أن الرقيق في الإسلام ظفر بمعاملة نبيلة يستحيل وجود مثلها في أية أمة أو ديانة أو حضارة أخرى .
بل إن القرآن العظيم قد نص صراحة على أن الزواج من جارية مؤمنة خير من الزواج من حُرَّة كافرة ، وكذلك فإن عبداً مؤمناً خير وأفضل عند الله من مشرك. قال تعالى : "ولأمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم" (الآية 221 من سورة البقرة) .
وقد نزلت هذه الآية – كما يروي ابن كثير – في عبد الله بن رواحة رضي الله عنه الذي غضب على جارية له يوماً فلطمها . فأحس بتأنيب الضمير فانطلق إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فأخبره ، فسأله الرسول عن أحوالها ، فأجاب عبد الله : تصوم وتصلي وتحسن الوضوء ، وتشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله، فقال له معاتباً : "يا عبد الله هذه مؤمنة" ، فقال عبد الله : والذي بعثك بالحق لأعتقنّها ولأتزوجنّها . وبالفعل أعتقها عبد الله بن رواحة وتزوجها، فثار عليه نفر من المسلمين منتقدين فعلته تلك ، وكانوا يريدون أن ينكحوا إلى المشركين وينكحوهم رغبة في الحسب والنسب، وكانوا مازالوا حديثى عهد بالجاهلية ، ويأنفون من الزواج من الإماء، فأنزل الله تعالى فيهم : "ولأمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم" (الآية : 221 من البقرة) . وفي ذات الآية أضاف تعالى بعدها قوله الحكيم : "ولعبد مؤمن خير من مشرك ولو أعجبكم" . ويفسر الإمام ابن كثير هذا الجزء من الآية قائلاً : أي ولرجل مؤمن ولو كان عبداً حبشياً خير – وأفضل – من مشرك وإن كان رئيساً ثرياً (10) انتهى .
ونظن أنه بعد كل هذا أنه لا يمكن الزعم أن أحداً قد جاء بشيء أفضل ولا أعظم من هذا التشريع الإلهي الذي لم يكتف بالمساواة بين الأحرار والعبيد في كل شيء، بل جعل العبيد أفضل من السادة في حالة اختلاف الدين، فالعبد المؤمن أفضل من ملء الأرض من الملوك الكافرين، والجارية السوداء الفقيرة المؤمنة أعظم وأكرم عند الله من كل ملكات الأرض الكافرات ، ولو كن أجمل وأصغر وأغنى، فلا قيمة لكل هذا الحطام الدنيوي الفاني في ميزان الإسلام . . ومن العلماء من أوجب على السيد تزويج عبده إذا بلغ مبلغ الرجال ، وكذلك نرى أنه يجب عليه تزويج جاريته إذا بلغت سن الزواج ، ولم يكن له فيها مأرب . وذلك انطلاقاً من مسئوليته عنها كراع مسئول عن رعيته أمام الله ، ومن أوجب الواجبات عليه أن يحمي مماليكه من الزنا والفواحش ، وأن يُحصِّنَهم بالزواج ، كما يفعل مع أبنائه وبناته الذين هم من صلبه . ويكفي أن نشير إلى ما فعله النبي من تزويج مولاه زيد بن حارثة من مولاته أم أيمن .
ونذكّر بأن آخر وصاياه صلى الله عليه وسلم قبل موته بقليل كانت هي : "الصلاة الصلاة وما ملكت أيمانكم"(11) . فلم يوص بابنته فاطمة أو أحفاده أو زوجاته ، بل أوصى بالإحسان إلى الرقيق "ملك اليمين" ، صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليماً كثيراً .
شهادات المنصفين
وفيما يلى بعض ما قاله نفر من المنصفين من غير المسلمين عن حسن معاملة العبيد في الإسلام . تقول المستشرقة الألمانية آنا ماري شيمل : "الإسلام يأمر بحسن معاملة العبيد ، فللعبيد مثلاً الحق في الحصول على رواتبهم في حالات العجز والمرض . وعتق العبيد من الأمور التي يدعو إليها الإسلام ، وللعبد الحق في شراء المحل الذي يعمل فيه ، وله الحق في الحصول على قدر من دخل العمل ، وقد قضى الإسلام نهائياً على الرق ، وتبوأ العبيد "أرفع" المراكز ، وهذا ما نلاحظه من قراءة التاريخ الإسلامي عامة" (12) . ويقول المفكر النصراني المصري الدكتور نظمي لوقا : "لقد سوّى الإسلام بين العبدان والأحابيش وملوك قريش"(13) . ويؤكد العلامة جوستاف لوبون في كتابه "حضارة العرب" أن أوضاع الرقيق في البلاد الإسلامية كانت أفضل بما لا يقاس من خدم المنازل في الغرب . فالرقيق - كما يلاحظ لوبون - كانوا يعتبرون من أفراد الأسرة ، لا فوارق بينهم وبين الأبناء ، فهم يتناولون ذات الطعام ، ويلبسون ملابس مماثلة لسادتهم، ويختلطون بهم في المعيشة اختلاطاً تامًا ، حتى يكاد الغريب عن المكان لا يعرف العبد من السيد في الأسرة العربية . وقد رفض كثير من الرقيق الحرية وفَضَّلوا البقاء مع سادتهم العرب لنبلهم وكرمهم(14). ولا يقتصر الأمر على ما ذكره هؤلاء المنصفون من الغرب . فالتاريخ يثبت أن المسلمين كانوا يعاملون الرقيق كالأبناء فعلاً وليس كلاماً فحسب . ولهذا نبغ الموالي في كل الأقطار الإسلامية في الحرف والمهن المختلفة ، ووصلوا إلى قيادة الجيوش والمناصب الإدارية العليا كالوزارة ، بل وصلوا إلى رئاسة الدولة كما حدث في مصر.. ألم تقم لهم دولة في مصر هي دولة المماليك الشهيرة ؟! .
وهل كان السلطان قطز قاهر التتار إلا مملوكاً عطف عليه سيده وربّاه وثقفه ، ثم دفع به إلى الصفوف الأولى حتى وصل إلى حكم مصر؟؟ وكذلك الظاهر بيبرس والملكة شجرة الدر وعز الدين أيبك وكافور الإخشيدي وغيرهم .. ولولا سماحة الإسلام ونبل معاملته للمماليك لما كان من هؤلاء حكام خلّدهم التاريخ الإسلامي كما لم يحدث في أية أمة أو حضارة أخرى . وصدق قول عبد الله بن عباس رضي الله عنه : "هكذا الإسلام يزيد الشريف شرفاً ويرفع المملوك على الأسّرة" .
و كان من أهم الشخصيات في التاريخ الإسلامي كله من كانوا عبيداً من قبل ، وأنعم الله عليهم بالإسلام والحرية ثم خلود الذكر . . ونكتفي ببعض الأمثلة لأننا لو أردنا حصر هؤلاء لاحتجنا إلى مجلدات مطولة . ألم يكن " بلال بن رباح " صاحب أول آذان " في تاريخ الإسلام" ثم مؤذن الرسول عليه السلام طوال حياته ؟! هل هناك أشرف من الآذان الذى يدعو الناس إلى بيت ربهم للصلاة والوقوف بين يدي الخالق جل وعلا ؟! ألا يدل تكليف النبي عليه السلام لبلال العبد السابق بهذه المهمة السامية على تشريف الإسلام لأولئك الذين استعبدوا وأهدرت إنسانيتهم حيناً من الدهر ؟! .
وكذلك أجمع علماء المسلمين على جواز إمامة العبد للمسلمين في الصلاة . . والصلاة هي عماد الدين وأهم أركان الإسلام بعد شهادة لا إله إلا الله محمد رسول الله . فإذا صح أن يؤم الناس عبد في أداء تلك الفريضة وخلفه يصلي مالكه وسيده ، فماذا يراد من الإسلام أكثر من هذا ؟! وعلى سبيل المثال صلى " صهيب " إماماً بالصحابة صلاة الجنازة على عمر بن الخطاب رضي الله عن الجميع . لاحظ أن صهيباً رضي الله عنه كان إماماً في تلك الصلاة وخلفه وقف عثمان وعلي بن أبي طالب والزبير وطلحة وسعد بن أبي وقاص وغيرهم من سادات العرب ، وهو العبد السابق الذي أعزّه الله بالإسلام. وتولى زيد بن حارثة – ثم ابنه أسامة من بعده – قيادة جيش المسلمين وكان من جنوده سادات وأكابر المهاجرين والأنصار .
وكان عمر رضي الله عنه يأذن لبلال بالدخول عليه قبل أبي سفيان بن حرب سيد مكة في الجاهلية . وأما العلماء فقد كان منهم عدد هائل من الموالي على مر العصور وفي كل أقاليم الدولة الإسلامية .. ويكفي أن نذكر بعضهم وعلى رأسهم الحسن البصري رضي الله عنه ومحمد بن سيرين ، فقد كان أبواهما من العبيد الذين تحرّروا بالإسلام، وكانت أم الحسن البصري مولاة للسيدة أم سلمة رضي الله عنها . ولسنا في حاجة إلى التعريف بمكانة و غزارة علم هذين العلمين الجليلين وتقواهما ومنزلتهما الرفيعة في قلوب السلف والخلف . وكان عكرمة مولى ابن عباس من أكثر الناس دراية بعلم البحر حبر الأمة سيده ابن عباس رضي الله عنهما ، وكذلك نافع مولى ابن عمر رضي الله عنهما . وهناك سالم مولى أبي حذيفة الذي قال عنه عمر رضي الله عنه : لو كان حياً لاستخلفته على المسلمين . وذات المقولة قالتها السيدة عائشة عن زيد بن حارثة ، أنه" لو كان حيّاً لاستخلفه رسول الله صلى الله عليه وسلم على المسلمين" ، أي جعله خليفة(15) . فهل يحلم أحد بأرفع من تلك المنزلة؟!!
-----------------------------
أهم المراجع
1- الجامع لأحكام القرآن الكريم – القرطبي – تفسير الآية 36 من سورة النساء .
والحديث في صحيح مسلم بشرح النووي وأيضاً فتح الباري شرح صحيح البخاري .
2- الحديث في صحيح مسلم أيضاً .
3- حديث القصاص من السيد إذا قتل أو جرح عبده شبه مجمع عليه من كل رواة الأحاديث الشريفة ، وهو يعتبر بحق من مفاخر الإسلام في العدالة و المساواة بين الناس .
4- سبل السلام للصنعاني – باب الجنايات ص 661 – طبعة دار الكتب العلمية – بيروت .
5- تفسير القرطبي – المرجع السابق .
6- حجة الإسلام الإمام أبو حامد الغزالي – إحياء علوم الدين – باب حقوق المملوك
7-الامام القرطبي – تفسير الآية 36 من سورة النساء – سبقت الإشارة إليه .
8- بداية المجتهد ونهاية المقتصد – ابن رشد – طبعة دار الشروق الدولية ص 412
9- سبل السلام – محمد بن إسماعيل الصنعاني ص 558 – 559 .
10- تفسير ابن كثير – تفسير الآية 221 من سورة البقرة .
11- زاد المعاد لابن القيم – سيرة ابن هشام – البداية والنهاية لابن كثير – الطبقات الكبرى لابن سعد – حلية الأولياء لأبي نعيم .
12- آنا ماري شيمل – الإسلام دين الإنسانية – طبعة المجلس الأعلى للشئون الإسلامية بمصر – سلسلة قضايا إسلامية – مايو 2007 م – ص 82 .
13- نظمي لوقا – محمد الرسالة والرسول ص 185 .
14- العلّامة الفرنسي جوستاف لوبون – حضارة العرب – طبعة الهيئة العامة للكتاب – مصر – ضمن مشروع مكتبة الأسرة .
15- انظر تراجم هؤلاء العظماء في: سير أعلام النبلاء للذهبي – حلية الأولياء لأبي نعيم – البداية والنهاية لابن كثير – الطبقات الكبرى لابن سعد وغيرها من كتب الرجال .
(منقول)