الطيب محمد الطيب مقالات في الصحف

الطيب محمد الطيب

الخريف في البطانة

قبل نيف وخمسون عاما كتب الشاعر الكبير عبد الله البنا قصيدة حوارية بين اعرابي وحضري واقرتها وزارة المعارف عهد ذاك باعتبارها انشودة عذبة . وظني ان الجيل الذي عاصر الاربعين وما قبلها حفظها وقد لقيت بعض ابيات منها عند شاعر القضارف المعروف ( خليل عجب الدور ) وهو من اصدقاء شيخ البنا . وتبدا القصيدة بالمقاطع التالية :

رافقني في سفرتي اعرابي فكان من خيرة الصحابي

ابتدا المقال بالسلام وقال حين سار في الكلام

يا من الفتم سكن البيوت وما بها من ملبس وقوت

ان البيوت حرها شديد وما بها من نعمة مزيد

ولبن المعزى لكم يباع وهي في بيوتكم جياع

ويقول في مقاطع القصيدة على لسان البدوي

فلو سكنت معنا البطانا لما رأيت مثلها مكانا

يكفيك من دنياك كلب الصيد يكون للغزلان مثل القيد

وابلنا حولنا عظام كانهن رقع نعام

وشاهدي هاهنا ارض البطانة التي زرتها الاسبوع الماضي وهي ارض خصبة كساها النبت الخريص حلة خضراء ، فانتعش كل شئ من الحيوان الى الطيرالى ( النتات ) وهو الحشرات والجنادب التي يسرها الخريف كما يسر الانسان والحيوان فصغار الابل الحيران ( ولدها حوار ) وهو ابن الناقة الصغير والمتلاب ابن البقرة الصغير والبهم هو صغار الغنم والضان تمرح جزلى حيثما ضربت امهاتها فالصغار تعدو وتمرح امامها ومن جنباتها الطيور بجميع اصنافها شعبي من الحبارى الى ود ابرق ومن الجوارح رأينا الصقور ومندوف والحداة والغراب وغيرها وحركتها تدل على شبع وري ومرح وتقف ثابتة غير مزعورة اذا اقبلت نحوها لانها ساكنة مطمئنة فكل شئ يوحي بالامان .

والبدو يقبلون نحو الزائر هاشين وبين ايديهم الكواري المملوءة باللبن القارص والفطيرة ولما تستجم دقائق تأتيك المرارة وبعدها الشواء محمولا على الجفان السود والصحاف البيضاء ثم يعقب ذلك الشاهي الاحمر بل التقيل وفي عرف البدو ان الشاي التقيل يزيل التخمة .

وفحول الجمال تهدر هدراً مزعجا والهدر هو بداية الهياج والجمل لا يهيج الا في الخريف ، ولما يهيج تخرج من بلعومه غدة يتطاير منها الزبد وهذا ايذان بالعشار فتتبع النوق الجمل الهائج حيثما ولى وتتدافع نحوه لتنال منه حظا وحينما يهيج الجمل يترك الاكل فتغور بطنه حتى تلتقي بظهره ولا يبغى الشهرين والثلاثة شيئا غير ارضاء خاطر النوق فيعلوا تلك ولما ينتهي منها تعارضه الاخري فتبرك تحته فلا يكسر خاطرها واذا قيل لرجل انت فحل فقد مدحوه غاية المدح ( وليت ابناء الجيل يشهدون الجمل الهايج ويسمعون صوته الرزام ) رغم نجاح الخريف فان المراعي شحيحة بالنسبة لكثرة النعم والماشية والاغنام وقد توسعت الزراعة توسعا شيه عشوائي وكل ذلك على حساب المرعى واذا كان اصحاب الزراعة يرون ان الافضلية لهم فان اصحاب الرعي لهم حقوق كثيرة فهم الاوثق بارض البطانة والبهائم في زماننا هذا ينحني لها الدولار ويقبل ظلفها وقد لا ينحني للحبوب كما ينحني للبهائم ، ان اصحاب الإبل ليحتجون احتجاجا شديدا ان حكومة الولاية ( القضارف ) تقرب المزارع وتتحيز له وحسب علمي فان حكومة الولاية تعادل بين الفريقين المتجافيين .

حي الله البطانة و ساكنيها واغدق عليهم من نعمه ولا احسب ان رقعة في بلادنا مدحها اهلها مثل ما صنعوا اهل البطانة .

الفجر 1997م